يقول ابن كثير رحمه الله: "هذا تأديب آخر بعد الأول: الآمر بالظن خيرا أي: إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة فأولى ينبغي الظن بهم خيرا، وألا يشعر نفسه سوى ذلك، ثم إن عَلِق بنفسه شيء من ذلك - وسوسةً أو خيالا - فلا ينبغي أن يتكلم به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل) ". اهـ
*****
قوله تعالى: (يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ):
قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): إلهاب آخر لحملهم على امتثال الموعظة.
وقوله تعالى: (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ):
الآيات: جمع محلى بـ: "أل" يفيد العموم، فالآيات: شرعية كانت أو كونية قد بينها الله، عز وجل، في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: صاحب الشريعة المبلغ عن ربه عز وجل.
فبيان الآيات الكونية: واضح، فقد يسر الله، عز وجل، التفكر فيها، وحض وأرشد إلى ذلك في أكثر من موضع في كتابه نحو:
قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
وقوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ).
وقوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ).
وقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
وأما بيان الآيات الشرعية، فإما أن يكون:
في الكتاب المنزل: فما أجمل في موضع بين في آخر، كما في:
تبيين معنى الظلم في قوله تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، بقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
وقوله تعالى: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، فقد جاء بيان تلك الكلمات في قوله تعالى: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وقوله تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، فقد جاء بيان هذا القول مفسرا في قوله تعالى: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى).
وهذا أمر مطرد حتى في علوم اللغة، فتقدير المحذوف، في علم النحو، على سبيل المثال، إن كان الشاهد آية من التنزيل، إنما ينظر فيه أول ما ينظر إلى آي الكتاب، فإن وجد له نظير، حُمِل عليه، وإن صح حمله على غيره، كما في:
قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، فالفعل "زعم" يتعدى:
بنفسه إلى مفعولين: فيصح أن يقال في غير القرآن: أين شركائي الذين كنتم تزعمونهم شركاءَ لي.
أو تسد جملة: "إن" واسمها وخبرها محلهما، فيقال: أين شركائي الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي.
والتقدير الثاني أولى لمجيء التنزيل به، في قوله تعالى: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ).
وربما حصل البيان في نفس الموضع كما في:
قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ)، فلفظ "الطارق" بين بعدها مباشرة بقوله تعالى: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ)، فجاء البيان بعد الإجمال.
¥