أحدها: أن الصحابة، رضي الله عنهم، كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟
والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف.
والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم، لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي، (فإذا كان العربي قادرا على إقامته فكيف بالعجمي الذي لا يحسن العربية).
والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب: (التابوت) بالهاء على لغة الأنصار فمنعوه من ذلك، ورفعوه إلى عثمان، رضي الله عنه، وأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش، (لأنه نزل بلغتهم ابتداء وإنما نزل بعد ذلك ببقية الأحرف تيسيرا على الناس فلما ذلت به ألسنتهم زالت الرخصة فردوا إلى حرف قريش)، ولما بلغ عمر، رضي الله عنه، أن ابن مسعود، رضي الله عنه، قرأ: "عتى حين" على لغة هذيل أنكر ذلك عليه، وقال: أقرئ الناس بلغة قريش، فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزل بلغة هذيل. اهـ ملخصا.
بتصرف نقلا عن: "شرح شذور الذهب"، ص79، 80.
وأما أثر عائشة، رضي الله عنه، فقد أجاب عنه ابن هشام، رحمه الله، بقوله:
"روى هذه القصة الثعلبي وغيره من المفسرين، وهذا، أيضا، بعيد الثبوت عن عائشة، رضي الله عنها، فإن هذه القراءات كلها موجهة". اهـ
وقد أجاب عنها ابن هشام، رحمه الله، في مواضع من "شرح الشذور"، فيبعد أن يخفى ذلك عن عائشة، رضي الله عنها، وهي من هي في الفصاحة وحسن البيان.
والثعلبي، رحمه الله، ممن يورد كل ما وقع له من روايات في تفسيره دون تدقيق، وإلى ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، في "مقدمة أصول التفسير" بقوله: "والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع". اهـ
وهذا شأن أغلب المفسرين، لأن كتب التفسير ليست كتب رواية، كالصحيحين والسنن، فيتساهل مصنفوها في إيراد الروايات، ما لا يتساهل من يصنف في العقائد والأحكام من أصحاب الأصول، كالجوامع والسنن.
وقد أخرج الأثر المنسوب إلى عائشة، رضي الله عنها، أيضا، الطبري، رحمه الله، في تفسيره، وهو تفسير بالمأثور، يروي مصنفه بالسند، ولكنه لم يشترط الصحة في كل ما يرويه، بل قصد جمع الروايات، فأبرز رجال أسانيدها، فخرج بذلك من عهدتها، فليس مجرد روايته الأثر كافيا في الحكم بصحته، بل ينظر في رجال السند، وقد روى هذا الأثر من طريق: شيخه ابن حميد، قال: ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه سأل عائشة ............... الأثر.
ومحمد بن حميد الرازي: متهم بالكذب مع كونه حافظا واسع الرواية، كما أشار إلى ذلك الحافظ الذهبي، رحمه الله، في "ميزان الاعتدال"، ترجمة: 7453 بقوله:
"عن يعقوب القمى، وابن المبارك: من بحور العلم وهو، (أي: ابن حميد) ضعيف.
قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير.
وقال البخاري: فيه نظر، (وهذا اللفظ من البخاري يدل على الجرح الشديد).
وكذبه أبو زرعة.
وقال فضلك الرازي: عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث، ولا أحدث عنه بحرف". اهـ بتصرف.
فالخبر مروي بإسناد واه، فسقط الاحتجاج به.
وأما الطريق الآخرى لهذه الرواية الضعيفة فهي: ما رواه الفراء عن أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
فهي، بادي الرأي، بمنزلة المتابعة التامة للطريق الأولى في محمد بن حميد الرازي، ولكنهما يرجعان، عند التحقيق، إلى طريق واحدة، لأن مدار الحديث على أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، فلا يقال بأن إحداهما تقوي الأخرى، لأنهما تَؤُولان إلى: طريق واحدة مخرجها واحد، والطريق لا تتقوى بنفسها، وإنما تتقوى بطريق تخالفها المخرج.
ومحمد بن خازم الضرير قال عنه:
الإمام أحمد رحمه الله: "أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب لا يحفظها حفظا جيدا".
وقال أبو داود: قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام ابن عروة قال: فيها أحاديث مضطربة يرفع منها أحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم". اهـ
من ترجمة أبي معاوية من "تهذيب التهذيب".
¥