فتقدير الكلام: قل لهم يقيموا الصلاة، إن تقل لهم ذلك يقيموا الصلاة، واعترض ابن مالك، رحمه الله، بأن التخلف واقع، فليس كل من توجه إليه الخطاب ممتثلا، فمن المكلفين من يترك الصلاة، وصيغة الشرط، كما تقدم، تفيد الجزم بوقوع المشروط إذا تحقق الشرط، ومع ذلك تخلف المشروط هنا مع تحقق الشرط بتوجه الخطاب إلى عموم المكلفين.
وأجاب ابنه "ابن الناظم رحمه الله" عن ذلك بأن المقصود: أكثر المكلفين لا كلهم، فيكون في الكلام مجاز، علاقته الجزئية، فأطلق الكل: عموم المكلفين، وأراد الجزء: أكثرهم أو بعضهم، أو يكون المراد: المخلصين منهم لا من اتصف بمطلق الإيمان، فيكون من العام الذي أريد به الخاص، وهو، أيضا، من صور المجاز عند من يقول به، فأطلق عموم الإيمان، وأراد خصوص الإخلاص والانقياد.
بتصرف من "مغني اللبيب"، (1/ 242، 243).
وحذف الشرط على القول بتقديره بـ: "إن تقل لهم: غضوا يغضوا" من صور: "إيجاز الحذف"، فإن المرء إذا سمع الأمر ابتداء تطلعت نفسه إلى ما بعده من تكليف أو وعد أو وعيد .......... إلخ، فحسن إيراد جواب الشرط وهو محط الفائدة مباشرة دون تطويل بذكر الشرط، فهو مما قد يصيب السامع بالسآمة والملل لعلمه به بداهة، ففي ذكره تطويل معيب يتنزه عنه كلام آحاد الفصحاء، فكيف بكلام رب الأرباب جل وعلا؟!!.
ونظيره قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهرقل: "أسلم تسلم"، فتقدير الكلام: "أسلم إن تُسْلِمْ تَسْلَم"، فذكر الجواب مباشرة وفيه البشرى بالسلامة مما يحمل السامع على سرعة الاستجابة بخلاف التطويل بذكر الشرط فقد يعرض للذهن ما يشغله أثناء ذكره، فتضيع الفائدة المرجوة من تعجيل البشرى.
والأمر للوجوب، على أصله، كما قرر جمهور الأصوليين، فلا يعدل عنه إلا بقرينة صارفة، ولا قرينة صارفة هنا، وهو: مراد لغيره، من جهة أن غض البصر وسيلة لحفظ الفرج، فيكون النهي عن إطلاق البصر من باب: "سد الذرائع" الموصلة إلى الوقوع في الحرام، و هو أصل اعتمده المالكية، رحمهم الله، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وعمل به فقهاء المذاهب الأخرى، وكثير من فروع الشريعة تشهد له، فما أمر به الشارع، عز وجل، فقد أمر بمكملاته، فالأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد يستلزم الأمر بمكملاته من: شراء ونحوه، وما نهى عنه فقد نهى عن ذرائعه، فنهيه عن عبادة الشمس وسائر الكواكب، يستلزم النهي عن ذرائعها، من الصلاة في أوقات النهي، التي يسجد فيها عبدة الشمس لها، فنهى عن مجرد مشابهتهم في الصورة الظاهرة سدا لذريعة مشابهتهم في الصورة الباطنة.
وفي قوله: (مِنْ أَبْصَارِهِمْ): "من" للتبعيض، لاستحالة غض البصر كلية، وقد سبق أن النهي عن إطلاقه سد لذريعة الوقوع في الحرام، و: "ما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة"، كما قرر أهل العلم، والمصلحة في إرساله بالضوابط الشرعية عند السعي في الأرض، والبيع والشراء .............. إلخ، مصلحة راجحة تبيح إرساله، وإلا لزم من إطلاق القول بغضه أن يستوي الأعمى والبصير ولا قائل بذلك.
وإلى ذلك أشار أبو السعود، رحمه الله، بقوله: " وتقييدُ الغضِّ بمن التبعيضيَّةِ دونَ الحفظ لما في أمر النَّظر من السَّعةِ". اهـ
وأشار القرطبي، رحمه الله، إلى وجهين آخرين لـ: "من" بالإضافة إلى التبعيض، فقال:
"قوله تعالى: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} {مِنْ} زائدة، كقوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]. وقيل: {مِنْ} للتبعيض، لأن من النظر ما يباح. وقيل: الغض النقصان، يقال: غض فلان من فلان أي وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو موضوع منه ومنقوص. فـ {مِنْ} صلة للغض، وليست للتبعيض ولا للزيادة".اهـ
فإما أن تكون زائدة، فتفيد بزيادة المبنى: زيادة المعنى، فتكون مؤكدة للأمر بغض الأبصار.
وإما أن تكون صلة للغض، فيكون المعنى: قل للمؤمنين ينقصوا من أبصارهم ويضعوا منها.
قوله: (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ):
ذلك: أي الكلام المتقدم، جريا على طريقة بعض العرب في الإشارة إلى ما تقدم، إشارة البعيد، ولو كان قريبا، كما حكاه البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى.
¥