قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ):
هذا أمر للمؤمنات بعد أمر المؤمنين، فإما أن يقال بأنه جاء تأسيسا، أو توكيدا على القول بأنهن داخلات في عموم خطاب المؤمنين، كما في قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وهو قول جمهور الأصوليين استدلالا بنحو: قوله تعالى: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)، وقوله تعالى: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)، فيكون ذكرهن من باب ذكر الخاص بعد العام، والقول الأول أرجح من جهة: أنه إذا دار الكلام بين التأسيس والتوكيد، فحمله على التأسيس أولى، لتجدد الفائدة، بخلاف التوكيد، فإنه وإن أفاد، إلا أنه لا يفيد معنى جديدا، وإنما يؤكد ما تقدم ذكره.
وذكر ابن كثير، رحمه الله، في سبب نزول هذه الآية:
قول: مقاتل بن حيَّان قال: بلغنا - والله أعلم - أن جابر بن عبد الله الأنصاري حَدَّث: أن "أسماء بنت مُرْشدَة" كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير مُتَأزّرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا. فأنزل الله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} الآية.
فالمرأة مأمورة بغض البصر كالرجل، لتحقق علة الحكم في حقها تحققها في حق الرجل، فكما أن الرجل يشتهي النظر إلى المرأة، فالمرأة تشتهي النظر إلى الرجل، لما فطر الله، عز وجل، عليه كلا الجنسين من الميل إلى الآخر.
وإلى ذلك أشار الحافظ ابن كثير، رحمه الله، بقوله:
"ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أنه: لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا. واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي، من حديث الزهري، عن نبهان - مولى أم سلمة - أنه حدثه: أن أم سلمة حَدَّثته: أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة، قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابنُ أمّ مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعدما أُمِرْنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجبا منه" فقلت: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو عمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه".
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة، كما ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه، وهو يسترها منهم حتى مَلَّت ورجعت". اهـ
على أن الإجماع منعقد على حُرمة النظر إن كان بشهوة، فصار محل النزاع: النظر إذا أمنت الفتنة، هل ينهى عنه سدا لذريعة الافتتان، أم يرخص فيه بقاء على الأصل؟
وقوله تعالى: (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ):
أي: ليحفظنها من الزنا، وقال أبو العالية رحمه الله: "كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج، فهو من الزنا، إلا هذه الآية: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} ألا يراها أحد". اهـ
¥