والحديث بتمامه عند البخاري، رحمه الله، طريق حميد الطويل عن أنس رضي الله عنه:
"جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي". اهـ
ورأي الأحناف والمالكية، رحمهم الله، أرجح من جهة موافقة النص الصحيح الصريح، فالرغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مظنة الهلاك، إلا لمن خشي التفريط في حق الزوجة، أو الانشغال عما هو أنفع من أمر الدين، على التفصيل السابق، والله أعلم.
والأمر في الآية للأولياء، لأن الفعل: "أنكحوا" من: "أنكح" الرباعي المتعدي إلى مفعولين بالهمزة، فتقول: أنكح محمد أحمدَ فاطمةً، ولو كان الأمر للأزواج، لقال: "وانكحوا" من: نكح الثلاثي المتعدي إلى مفعول واحد، فتقول: نكح أحمدُ فاطمةَ.
قوله تعالى: (الْأَيَامَى):
جمع أيم: وهو من بلا زوج، سواء أكان رجلا أم امرأة، تزوج قبل ذلك أم لم يتزوج، فالعبرة بحاله، وهو مما يستوي فيه الذكر والأنثى، فيقال: رجل أيم وامرأة أيم، كـ: "فعيل" بمعنى: مفعول، نحو: جريح وقتيل فيقال: رجل جريح وامرأة جريح، و: رجل قتيل وامرأة قتيل، و: "فعول" بمعنى: فاعل، نحو: غضوب، فيقال: رجل غضوب وامرأة غضوب.
قوله تعالى: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ):
وعد من الله، عز وجل، كتبه على نفسه، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: (ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ).
وقال عمر رضي الله عنه: "ابتغوا الغنى في الباءة"، والأثر عند عبد الرزاق وابن أبي شيبة، رحمهما الله، في مصنفيهما.
يقول القرطبي رحمه الله:
"وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضا الله واعتصاما من معاصيه. وقال ابن مسعود: "التمسوا الغنى في النكاح"، وتلا هذه الآية.
وقال عمر رضي الله عنه: "عجبي ممن لا يطلب الغني في النكاح"، وقد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (12/ 203).
يقول أبو السعود رحمه الله: "وفيه إزاحةً لما عسى يكونُ وازعاً من النِّكاحِ من فقرِ أحدِ الجانبينِ أي: لا يمنعنَّ فقرُ الخاطبِ أو المخطوبةِ من المُناكحةِ فإنَّ في فضل اللَّهِ عزَّ وجلَّ غُنيةً عن المالِ فإنَّه غادٍ ورائحٌ يرزق مَن يشاء مِن حيثُ لا يحتسبُ ................ لكنَّه مشروطٌ بالمشيئةِ كما في قولهِ تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} ". اهـ بتصرف يسير
فعموم آية النور مخصص بالمشيئة في آية النساء.
وقوله تعالى: (والله واسع عليم): يرزق من يشاء بغير حساب، ويعلم من حال عبده ما يخفى على غيره، فإن كان مخلصا في طلب العفة أعانه فضلا، وإلا خذله عدلا.
والتذييل بهذين الاسمين يناسب ما تقدم، إذ خوف الناكح من الفاقة يقابله: وصف الله، عز وجل، بالسعة، التي اشتق منها اسم الفاعل "واسع"، وصدق نيته يقابله وصف الله، عز وجل بالعلم الذي اشتقت منه صيغة المبالغة: "عليم"، فالله، عز وجل، عليم بنيته.
¥