قوله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ):
أمر بالعفة لمن لم يجد النكاح حتى يجد مئونته، فالألف والسين والتاء تدل على طلب الفعل كما تقرر في الصرف، وهذه الآية مطلقة يقيدها قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ)، وقد أخذ بمفهوم الشرط في الآية الثانية بعض أهل العلم فحرم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح الحرة لئلا تسترق ذريته، وفيها: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ)، فهي بمنزلة الرخصة فتفيد بمفهومها: تقييد نكاح الإماء بحال الضرورة وهو: خشية الوقوع في الزنا، وفي آخرها: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فالصبر بالاستعفاف في آية النور خير من نكاح الأمة، وإن كان جائزا.
والاستعفاف يكون بما أمكن، ولو بالصوم، وإلى ذلك أشار القرطبي، رحمه الله، بقوله:
"من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطول فالمستحب له أن يتزوج، وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف ما أمكن ولو بالصوم فإن الصوم له وجاء، كما جاء في الخبر الصحيح. ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى. وفي الخبر: (خيركم الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد) ". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (12/ 205)
والخبر الأخير قال عنه أبو حاتم رحمه الله: "هذا حديث باطل"، كما أشار المحقق في الحاشية، وقد أورده العقيلي، رحمه الله، في "الضعفاء الكبير"، والصغاني، رحمه الله، في "موضوعاته" بلفظ: "خير الناس بعد المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد"، ومحكم النصوص بخلافه، ولعله من صنع بعض الزهاد الذين ضلوا في مفهوم الزهد، وشريعة الإسلام: وسط بين الشرائع، فلا يهودية جافية ولا نصرانية غالية، وإنما حنيفية سمحة.
وعند أحمد، رحمه الله، في "مسنده" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ: الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ.
وعنده، أيضا، في المسند من حديث أبي أمامة الباهلي، رضي الله عنه، مرفوعا: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ".
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا):
أمر بمكاتبة العبد إن علم من حاله أنه: صاحب حيلة وكسب، لئلا يكون عالة على غيره إذا أعتق وكان أخرق لا يجيد صناعة، فمفهوم الشرط في قوله تعالى: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا): معتبر، فإن لم تعلموا فيهم كفاية فلا تكاتبوهم لئلا تحملوهم ما لا يطيقون.
والأمر في قوله تعالى: (فكاتبوهم): أمر إرشاد واستحباب، على قول كثير من أهل العلم، وإيجاب على قول بعض آخر.
يقول ابن كثير رحمه الله:
"وقال الثوري، عن جابر، عن الشعبي: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه.
وقال ابن وهب، عن إسماعيل بن عياش، عن رجل، عن عطاء بن أبي رَبَاح: إن يشأ يكاتبه وإن لم يشأ لم يكاتبه، وكذا قال مُقاتل بن حَيَّان، والحسن البصري.
وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبدُه ذلك، أن يجيبه إلى ما طلب، أخذًا بظاهر هذا الأمر. قال البخاري: وقال روح، عن ابن جُرَيْج قلت لعطاء: أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو بن دينار: قلت لعطاء، أتأثُرُه عن أحد؟ قال: لا". اهـ
وأشار القرطبي، رحمه الله، إلى الخلاف بقوله:
"ولها حالتان:
¥