"وقد سمى الله تعالى كتابه نورا فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء: 174] وسمى نبيه نورا فقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]. وهذا لأن الكتاب يهدي ويبين، وكذلك الرسول. ووجه الإضافة إلى الله تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها".
"الجامع لأحكام القرآن"، (12/ 216، 217).
فإطلاقه على الله، عز وجل، من هذه الوجه: إطلاق للسبب، وهو: النور الهادي، وإرادة للمُسَبِبِ، وهو: الله عز وجل.
قوله تعالى: (كَمِشْكَاةٍ):
هي موضع الفتيلة من القنديل، كما رجح ذلك ابن كثير، رحمه الله، وهي من الألفاظ الحبشية، وقد وقع الخلاف بين أهل العلم في مسألة الألفاظ الأعجمية:
فالإجماع منعقد على:
أنه ليس في القرآن أسلوب أعجمي، فأساليب القرآن: عربية فصيحة.
وعلى أن في القرآن أعلاما أعجمية كـ: أسماء الملائكة: كجبريل وميكائيل.
وأسماء الأنبياء عدا: محمد وصالح وهود وشعيب عليهم الصلاة والسلام.
ولذلك تمنع هذه الأسماء من الصرف لعلة: العلمية والعجمة.
وأما الخلاف فهو منحصر في: وجود ألفاظ أعجمية غير الأعلام:
فمن أثبت وجودها استدل بورود ألفاظ من قبيل: "اليم" و "قسورة" و "مشكاة" و "سرادقها" و "كفلين" و "تبرج" (فأصلها فارسي من برج الشيء إذا ظهر وارتفع لأن المرأة المتبرجة تظهر محاسنها)، ولا مانع من ورود هذه الألفاظ في القرآن الكريم، لأن العرب استعملتها في كلامها، فصارت من مفردات لغتها، فهي ألفاظ: عربية: "معربة" إن صح التعبير.
ومن نفى وجودها قال بأن هذه الألفاظ مما تواردت عليه الألسن، فتكون من مفردات أكثر من لغة، وهذا اختيار الطبري، رحمه الله، أو تكون عربية قد أخذها العجم من لغة العرب فصارت من مفردات لسانهم، فليس الدعوى الأولى أولى بالقبول من هذه الدعوة، ودخول مفردات لغة في لغة أخرى أمر مشاهد في اللغات المعاصرة، فاللغة الإسبانية على سبيل المثال تحوي عددا كبيرا من مفردات اللغة العربية، وتوارد اللغات على لفظ واحد أمر مشاهد أيضا، فـ "الدينار"، على سبيل المثال، يشترك فيه اللسان العربي واللسان الصربي مع بعد ما بينهما.
وقوله تعالى: (فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ):
"أل" في: "المصباح" و: "الزجاجة": للعهد الذكري، لتقدم ذكرها، كما في قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا)، فـ: "أل" في "الرسول" راجعة على قوله: "رسولا" في الآية السابقة.
وفي قوله تعالى: (كأنها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ): "كوكب": خبر "كأن"، و "دري": نعت مفرد، و: "يوقد": إما أن يكون نعتا ثانيا، فيكون جاريا على قياس العربية في تقديم النعت المفرد على النعت بالجملة إذا اجتمعا، أو: النعت الصريح على النعت غير الصريح، وقد جاء كلا الأمران في التنزيل:
فقدم النعت المفرد على النعت بالجملة كما في هذه الآية.
وقدم النعت بالجملة على النعت بالمفرد، كما في قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ)، فـ:
"كتاب": خبر مبتدأ محذوف تقديره: "هو"، و: "أنزلناه": نعت أول، و: "مبارك": نعت ثان.
وقول أعشى قيس:
وقصيدةٍ تأتي الملوك غريبة ******* قد قلتُها ليقال من ذا قالها
فـ: "تأتي الملوك": نعت أول، و: "غريبة": نعت ثان.
وإما أن تكون النكرة: "كوكب" قد اكتسبت تخصيصا بالنعت: "دري"، والتخصيص نوع تعريف يجيز وقوع الحال من النكرة، فتكون جملة: "يوقد": حالا.
وفي الآية تشبيه مرسل: طرفاه:
نور الله، عز وجل، الذي يقذفه في قلب عبده المؤمن.
و: المشكاة التي تضيء إضاءة الكوكب الدري المضيء الذي يستمد وقوده من زيت زيتون شجرة مباركة.
وأداة التشبيه: الكاف في: "كمشكاة".
وقوله تعالى: (زيتونة):
¥