قوله تعالى: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ):
يقول أبو السعود رحمه الله:
" {لِيَجْزِيَهُمُ الله} متعلِّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه ما حُكي من أعمالهم المرضيَّةِ أي يفعلُون ما يفعلُون من المُداومة على التَّسبيح والذِّكرِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والخوفِ من غير صارفٍ لهم عن ذلك ليجزيهم الله تعالى {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} ". اهـ
فتكون اللام في: ليجزيهم": لام التعليل. ويكون المحذوف في الآية قد عُلِمَ بـ: "دلالة الاقتضاء"، فالسياق يقتضي ذلك المقدر لكي يتم المعنى.
وفي قوله تعالى: (أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ)، استعمال لأفعل منزوعة الدلالة على التفضيل، فليس التفضيل مقصودا، لأن سياق الثناء مئنة من كون أعمالهم كلها حسنة، وإن وقع فيها ما وقع من التقصير الذي لا يسلم منه أحد، ونظيره:
قوله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)، فما أنزله الله، عز وجل، من الشرائع حسن كله فيكون معنى التفضيل هنا أيضا: غير مراد. والله أعلم
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ):
"أعمال": بدل اشتمال من "الذين كفروا"، كما تقول: أعجبتني الفتاة حياؤها، فالمشبه هو: أعمالهم لا ذواتهم.
وفي الآية: تشبيه مرسل مجمل، فذكر الله عز وجل:
المشبه: وهو أعمال الذين كفروا.
والمشبه به: وهو: السراب.
وأداة التشبيه: الكاف في "كسراب".
ووجه الشبه المقدر: كون كل منهما لا حقيقة له.
فأعمال الذين كفروا كالسراب في الأرض المستوية المتسعة بعد نصف النهار، لا حقيقة لها، وإن ظنوا أنهم على شيء، فإن المحتاج إلى الماء إذا رأى السراب من بعيد ظنه ماء، فإذا اقترب منه لم يجده شيئا، فكذا الكافر، يحتاج إلى عمل صالح خالص ينجيه يوم العرض على الجبار، عز وجل، فإذا وافى عمله يوم الحساب، لم يجده شيئا، لكونه: غير خالص، وإن كان صوابا في نفسه، كما نرى كثيرا من الكفار يتصدقون ويصلون ويبكون خشية ويتورعون عن كثير من المحارم تدينا، ولكن فساد الأصل لا ينفع معه صلاح الفرع، مصداق قوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)، فأكد عموم "ما" الموصولة بـ: "من"، فكل عملهم بلا استثناء يكون يوم القيامة هباء منثورا.
وقد يدخل في عموم هذه الآية: أهل البدع والأهواء، فأعمالهم، أيضا، كالسراب، وإن كان معهم أصل الإيمان المنجي إن كانوا مسلمين في الباطن، ومع ذلك حبط عملهم من جهة كونه: محدثا لا أصل له، فلا يقبل منهم، وإن أخلصوا فيه، لكونه غير صواب، والعمل لا يقبل إلا إذا كان صوابا خالصا كما قال الفضيل بن عياض، رحمه الله، في تفسير قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
فـ: (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا): متابعة.
و: (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا): إخلاص.
قوله تعالى: (والله سريع الحساب):
يحاسب عباده في يوم، كما جاء في الأثر، فكما يرزقهم جميعا في آن واحد، فإنه يحاسبهم جميعا في آن واحد، كما أثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وهو قياس صحيح، فإنه، عز وجل، ليس كمثله شيء في صفاته وأفعاله.
يقول القرطبي رحمه الله:
"قال الحسن: حسابه أسرع من لمح البصر، وفى الخبر: "إن الله يحاسب في قدر حلب شاة".
وقيل: هو أنه إذا حاسب واحدا فقد حاسب جميع الخلق.
وقيل لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال كما يرزقهم في يوم! ومعنى الحساب: تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه، بدليل قوله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه) ". اهـ
وقد قيل: نزلتْ في عُتبةَ بنِ أبي ربيعةَ بنِ أُميَّة كان قد تعبَّد في الجاهليَّةِ ولبس المسوحَ والتمسَ الدِّينَ فلمَّا جاء الإسلامُ كفرَ.
والعبرة، كما تقدم في أكثر من موضع، بـ: عموم اللفظ لا بخصوص السبب، فصورة السبب داخلة قطعا في الحكم، وغيرها داخل إما بدلالة نفس اللفظ، وهو رأي الجمهور، لأن الأصل في خطاب الشارع، عز وجل، العموم، وإما بدلالة القياس على صورة السبب، فالخلاف عند التحقيق: لفظي، لأن مؤدى القولين واحد.
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله.
¥