ـ[مهاجر]ــــــــ[05 - 12 - 2008, 02:53 ص]ـ
قوله تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ):
البحر اللجي هو: العميق، فكذا قلب الكافر في ظلمته، والتشبيه هنا، أيضا: مرسل مجمل، فوجه الشبه المقدر هو: الظلمة.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وهذا المثال، أي المثال في آية السراب، مثال لذوي الجهل المركب. فأما أصحاب الجهل البسيط، وهم الطَّماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر، الصم البكم الذين لا يعقلون، فمثلهم كما قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}: قال قتادة: وهو العميق.
{يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي: لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يدري أين يذهب، ولا هو يعرف حال من يقوده، بل كما يقال في المثل للجاهل: أين تذهب؟ قال: معهم. قيل: فإلى أين يذهبون؟ قال: لا أدري". اهـ
فمن علم خلاف الحق فجهله: جهل مركب من جهة أنه لم يعلم الحق أولا، وعلم خلافه ثانيا، وقد يلحقه وصف الجهل المركب من جهة أنه مع ما فيه من ضلال، يظن نفسه على الحق، فهو جاهل بالحكم وجاهل بحال نفسه أنه جاهل.
ومن أقوال الشعراء:
جهلت وما تدري بأنك جاهل ******* ومن لي بأن تدري بأنك لا تدري.
ومن نوادرهم:
قال حمار الحكيم يوما ******* لو أنصف الدهر كنت أركب
لأنني جاهل بسيط ******* وصاحبي جاهل مركب
والحكيم هنا: من اشتغل بالفلسفة وحكمة الأوائل التي هي عند التحقيق: جهل مركب، فالخوض في الغيبيات بالعقل القاصر: جهل فاضح، وإنما السبيل فيها: كمال التسليم لخبر الوحي الصادق، وإنما حُمِد القوم بما صنفوه في الطبيعيات التي تدركها العقول، وليتهم اقتصروا على ذلك.
والشيء لا يعرف إلا بـ: رؤيته، أو رؤية نظيره، أو خبر صادق عنه، كما قرروا هم أنفسهم في: "نظرية المعرفة" التي بنوها على العلوم الضرورية المستفادة من الحواس الظاهرة، فمن أين لهم أحدها في مسائل الغيب المطلق التي لا تستقل العقول بإدراكها، فمن ذا الذي اطلع على الغيب المطلق، أو رأى نظيره، أو جاءه خبر صادق عنه؟!!!.
وأما الجاهل البسيط، فهو من لم يعرف الحق ابتداء، وهذا حال المقلد، سواء أكان في الأصول أم في الفروع، وهو مع عظيم جهله، من أشد الناس تعصبا، فالكافر الذي أسلم عقله لأئمة الضلال، كالآلة الصماء التي لا إرادة لها، والمبتدع الذي تعصب لرأي محدث، من أشد الناس قتالا دون بدعته، واستحلالا لدم مخالفه، مصداق ما رواه الدارمي، رحمه الله، من طريق: مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ قَالَ: "مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلاَّ اسْتَحَلَّ السَّيْفَ". اهـ
والمقلد في الفروع لا يعرف دليل إمامه، وإنما يتعصب لأقوال الرجال، فيقدمها على الدليل، فهو ليس عالما بالحكم لأن العلم: معرفة الحق بدليله لا استظهار أقوال الرجال وإن علت أقدارهم.
قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ):
عموم لم يدخله التخصيص، فالشرط: "من": يفيد العموم، و: "نور" في جوابه: نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، فضلا عن توكيد هذا العموم بـ: "من" الجارة، التي تفيد استغراق جنس ما دخلت عليه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أكثر من موضع.
فأي أحد أيا كان، لم يجعل الله له نورا، فليس له نور، أي نور، فالنور إنما يستمد من الوحي المعصوم.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} أي: من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر، كما قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] وهذا في مُقابلة ما قال في مثل المؤمنين: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} ". اهـ
¥