وهو أمر مطرد في القرآن الكريم، فحيث يذكر الخير يقرن به الشر، وحيث يذكر النعيم يقرن به العذاب، وحيث يذكر المؤمن يقرن به الكافر، وحيث يقرن النور تقرن به الظلمات ......... إلخ على سبيل المقابلة، كما في:
قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)، فذكر المؤمنين ثم أتبع ذكرهم بذكر الكفار المستنكفين عن عبادته عز وجل.
يقول الزركشي رحمه الله:
"وقد تكون العلاقة بينهما، (أي: بين الآيتين المتتاليتين)، المضادة وهذا كمناسبة ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب والرغبة بعد الرهبة وعادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاما ذكر بعدها وعدا ووعيدا ليكون ذلك باعثا على العمل بما سبق ثم يذكر آيات التوحيد والتنزيه ليعلم عظم الآمر والناهي وتأمل سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها تجده كذلك". اهـ
"البرهان في علوم القرآن"، (1/ 40).
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ):
الاستفهام: تقريري، لأنه دخل على نفي، كما في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ)، وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ).
وقد تعدى الفعل: "تر" بحرف الجر: "إلى"، مع أنه مما يتعدى بنفسه إلى مفعول، إن كانت الرؤية بصرية، وإلى مفعولين، إن كانت الرؤية علمية، وسبب ذلك أنه قد ضمن معنى الفعل: "تنظر"، والنظر مما يتعدى بـ: "إلى"، إن كان نظر عين، وإليه أشار الزركشي، رحمه الله، بقوله:
"فإن قلت من أين جاءت إلى ورأيت يتعدى بنفسه أجيب لتضمنه معنى تنظر". اهـ
"البرهان في علوم القرآن"، (1/ 46).
والتضمين باب واسع: فقد يضمن الفعل المتعدي معنى فعل لازم، فلا يعمل في مفعول أو اثنين، كما في هذا الموضع.
وعلى العكس: قد يضمن الفعل اللازم معنى فعل متعد، فيتعدى بنفسه، بعد أن كان قاصرا لا يتعدى إلا بواسطة، كما في قوله تعالى: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فالفعل: "عزم" لا يتعدى إلا بواسطة حرف الجر: "على"، فتقول: عزمت على فعل كذا، ولكنه ضمن في هذا الموضع معنى الفعل: "نوى"، فتعدى بنفسه، كما تقول: نويت الصلاةَ.
وقد أشار القرطبي، رحمه الله، إلى جانب من هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)، فقال:"وتعدى " الرفث " بـ "إلى" في قوله تعالى جده: "الرفث إلى نسائكم"، وأنت لا تقول: "رفثت إلى النساء"، ولكنه جئ به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله: "وقد أفضى بعضكم إلى بعض". [النساء
: 21].
ومن هذا المعنى: "وإذا خلوا إلى شياطينهم" [البقرة: 14] كما تقدم، (يقصد: تضمين: "خلا" معنى: "ذهب" و "انصرف").
وقوله: "يوم يحمى عليها" [التوبة: 35] أي: يوقد، لأنك تقول: أحميت الحديدة في النار، ومنه قوله: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره" [النور: 63] حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره، كما سيأتي إن شاء الله، لأنك تقول: خالفت زيدا.
ومثله قوله تعالى: "وكان بالمؤمنين رحيما" [الأحزاب: 43] حمل على معنى رءوف في نحو: "بالمؤمنين رءوف رحيم" [التوبة: 128]، ألا ترى أنك تقول: رؤفت به، ولا تقول رحمت به، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية.
ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي:
حملت به في ليلة مزءودة ******* كرها وعقد نطاقها لم يحلل
عدى: "حملت" بالباء، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه، كما جاء في التنزيل: "حملته أمه كرها ووضعته كرها" [الأحقاف: 15]، ولكنه قال: حملت به، لأنه في معنى حبلت به". اهـ
بتصرف يسير من "الجامع لأحكام القرآن"، (2/ 283).
¥