وقد يقع التضمين في الأسماء كما يقع في الأفعال، فمن ذلك:قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ):
فقد ضمنت: "الرحمة" معنى: "الإحسان"، على أحد التخريجات فصح الإخبار عنها باللفظ المذكر: "قريب"، وقيل اكتسبت التذكير اللفظي من إضافتها إلى لفظ الجلالة: "الله"، وقيل: صيغة "فعيل" مما يستوي فيه المذكر والمؤنث.
وقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ):
يقول القرطبي رحمه الله:
"إن قيل: لم قال "كتب" ولم يقل كتبت، والوصية مؤنثة؟ قيل له: إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (2/ 229).
ويرد على إطلاق القول بتضمين الفعل "تر" معنى الفعل: "تنظر" المتعدي بـ: "إلى"، قصر النظر على: نظر البصر، مع أن النظر قد يكون: قلبيا، فيتعدى بـ: "في"، فتقول: نظرت في أمري، وهو الأرجح في هذا الموضع، لأن التسبيح معنى، والمعاني لا تدرك بالحواس الظاهرة، فالأقرب أن المعنى: ألم تنظر في تسبيح الخلائق نظر تأمل واعتبار؟، أو يقال بأنها: من المجزوم به، فنزلت منزلة المشاهَد المحسوس، فصارت الرؤية: رؤية بصر مجازا.
وعلى القول ببقاء الرؤية في الآية على أصلها فهي إما أن تكون:
علمية:
فتتعدى إلى مفعولين، وتكون الجملة بعدها قد سدت مسد المفعولين، فيكون المعنى: ألم تعلم بأن الله يسبح له .......
أو: بصرية:
مع أن تسبيح كثير من الكائنات غير مدرك بالحواس، ولكن لما كان ذلك أمرا مجزوما به، نُزَل منزلة المُدرك بالحواس، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ومنه قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)، فيصح حمل الرؤية فيه على الرؤية البصرية، مع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن موجودا آنذاك، ولكن لما كان قريب عهد بها، وقد تواترت عنده أنباؤها، صارت في حكم المُشَاهَد، تماما، كالشهادتين: فالمقر بهما موقن جزما حتى كأنه يرى ما شهد به رأي عين.
ويرد على ما سبق: أن إدراك تسبيح الجمادات بالحواس قد يحصل لنبي أو ولي: معجزة أو كرامة، كما في حديث الحسن عن أنس رضي الله عنه: "تَنَاوَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْع حَصَيَات فَسَبَّحْنَ فِي يَده حَتَّى سَمِعْت لَهُنَّ حَنِينًا، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فِي يَد أَبِي بَكْر فَسَبَّحْنَ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فِي يَد عُمَر فَسَبَّحْنَ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فِي يَد عُثْمَان فَسَبَّحْنَ"، وقد عزاه صاحب "كنز العمال" إلى ابن عساكر، رحمه الله، وقال المحقق في الحاشية: "أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 298) باب تسبيح الحصى وأورد هذه الأحاديث وغيرهما وقال: رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما ثقات". اهـ
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه: (وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ)، فالأولى: معجزة لنبي، والثانية: كرامة لولي من جنس الأولى، وإن كانت مرتبة الكرامة أدنى من مرتبة المعجزة فهي تابعة لها، تبع الولي للنبي، فلا يسع الولي الخروج عن شريعة النبي، خلافا لمن جوز ذلك من غلاة المتصوفة.
وقوله تعالى: (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ):
"من": موصولة، فهي من صيغ العموم، والأصل فيها أن تكون للعاقل، ولكنها في هذا السياق: تعم العاقل وغير العاقل، فيكون الكلام على: "التغليب"، كما في:
قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ): فـ: "العالمين": اسم جمع لا مفرد له، وضع لمن يعقل، ولكنه في هذا السياق: يفيد عموم الموجودات، بقرينة عموم ربوبية الله، عز وجل، لكل الكائنات، سواء أكانت عاقلة أم غير عاقلة.
وقوله تعالى: (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ):
ذكر الطير في حال طيرانها، من باب "التغليب"، أيضا، فهي تسبح في كل أحوالها:
حال الصف: وهو الطيران، وهو الغالب على حالها، ولذا جاء الحال اسما: "صافات"، ليفيد الثبوت والاستمرار.
وحال القبض: إذا غيرت مسارها، وهو الطارئ على حالها، ولذا جاء بصيغة الفعل في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ)، ليفيد: التجدد والحدوث.
¥