"وقوله: {وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ}: قال بعض النحاة: "من" الأولى: لابتداء الغاية، والثانية: للتبعيض، والثالثة: لبيان الجنس وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من المفسرين إلى أن قوله: {مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} معناه: أن في السماء جبالَ بَرَد ينزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال ههنا عبارة عن السحاب، فإن "من" الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا، لكنها بَدَل من الأولى، والله أعلم". اهـ
فـ: "من": الأولى كـ: "من" في قولك: سافرت من القاهرة إلى الإسكندرية، أي: كان ابتداء سفري من القاهرة، ومثله قوله تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، فابتداء النصر لا يكون إلا من عند الله، عز وجل، وكذا ابتداء نزول المطر إنما يكون من السماء، والسماء هنا:
إما أن تكون بمعنى العلو المطلق، فكل ما علا الإنسان فهو سماء.
وإما أن تكون بمعنى: "السحاب"، فيكون مجازا، عند من يقول به، علاقته: الحالية، إذ أطلق: المحل، وأراد الحال فيه، كـ: "الغائط" فهو: حقيقة في الأرض المطمئنة، مجاز في الخارج من البدن، علاقته الحالية، لأن العرب كانت تقضي حوائجها في الأماكن المنخفضة طلبا للستر، فأطلق المحل على الحال فيه تنزها بالكناية عما يستقبح ذكره، وكذا السحاب فإنه يحل في السماء.
يقول أبو حيان رحمه الله:
"وتقول العرب: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، يريدون المطر وقال الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ******* رعيناه وإن كانوا غضابا". اهـ
و"من": الثانية: إما أن تكون للتبعيض، فيكون النازل بعضا من جبال من البرد موجودة في السماء، أو لابتداء الغاية، أيضا، على القول بأن الجبال هي السحاب، فتكون هذه الغاية مبدلة من الغاية الأولى، إذ هي المقصودة بالحكم ابتداء، لأن المطر إنما ينزل من السحاب، فهو أخص به من السماء، وإن صح إطلاق نزوله من السماء لكونها تحوي السحاب على التفصيل المتقدم. والبلاغيون يقولون إن في الإتيان بالمبدل منه أولا ثم التثنية بالبدل: بيانا بعد إجمال، ففيه نوع تشويق إلى الخاص بذكر العام، فتشتاق النفس إلى مزيد بيان، إذ العام ظني محتمل، فيأتي البدل ليقطع ذلك الاحتمال ويرفع كل إشكال.
و "من" الثالثة: لبيان جنس النازل، وهو البرد، كما في:
قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)، أي: من جنس الأوثان.
وقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)، أي: الذين آمنوا من جنسكم، فالمقصود بيان استخلاف جنس المؤمنين في الأرض.
وقوله تعالى: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ):
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "أي: يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته". اهـ
قوله تعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ):
فيه إثبات: صفة تقليب الليل والنهار، للباري، عز وجل، فهي صفة فعل متعلقة بمشيئته، عز وجل، فهو الذي يقلب الليل والنهار، رحمة بعباده، مصداق قوله تعالى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وقدم الليل، لأنه الأصل، مصداق قوله تعالى: (وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ)، فالليل: أصل، والنهار فرع عليه.
وفي قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ):
تنصيص على العلة، من تقليب الليل والنهار، وإن كان لذلك علل أخرى، كابتغاء الرزق وصلاح الثمار وراحة الأبدان ......... إلخ، وتعليل الحكم بأكثر من علة لا إشكال فيه.
وقد أكدها بـ:
"إن" المؤكدة.
و: تقديم شبه الجملة متعلق الخبر: "في ذلك"، وتقديم ما حقه التأخير مشعر بالتوكيد.
ودخول اللام المزحلقة على اسم "إن" المؤخر: "لعبرة" لئلا يجتمع مؤكدان في صدر الجملة، فضلا عن اسمية الجملة، التي تدل على الثبوت والاستمرار.
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله.
¥