فيه أمر بطاعة الله، عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، صاحب الشريعة، طاعة مطلقة، ولذا كرر الفعل في حقه، لينبه على أن طاعته مطلقة في أمور الشريعة: أصولا وفروعا، بخلاف طاعة أولي الأمر في نحو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)، فهي فرع على طاعة الله ورسوله، بدليل رد الأمر عند التنازع إلى الله ورسوله دونهم.
وقوله تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا):
شرط يفيد بدلالة المنطوق: تحقق الهداية بطاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبدلالة المفهوم: ضلال من عصى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وخرج عن أمره.
وقوله تعالى: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ):
قصر إضافي، فمهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام في أمر الرسالة: هداية الدلالة والإرشاد، فإذا بلغوا فقد برئت ذممهم، والتوفيق بيد الله، عز وجل، يهدي من يشاء فضلا، ويضل من يشاء عدلا.
قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ):
فيه عطف الصالحات على الإيمان: عطف خاص على عام، فالأعمال الصالحة: من الإيمان، وهما الوصفان اللذان علق الله، عز وجل، حصول الاستخلاف والتمكين والأمن عليهما.
يقول أبو السعود رحمه الله:
" {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض} جوابٌ للقسم إمَّا بالإضمار أو بتنزيل وعدِه تعالى منزلةَ القسمِ لتحقُّق إنجازِه لا محالةَ أي ليجعلنَّهم خلفاءَ مُتصرِّفين فيها تصرُّفَ الملوكِ في ممالكهم أو خَلَفاً من الذين لم يكونُوا على حالهم من الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحة". اهـ
فقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ): يحتمل القسم فتقول: وعد الله لأفعلن، ويحتمل الخبر، فتقول: وعد الله لا يتخلف، فليس نصا صريحا في القسم، ولكن السياق هنا يرجح كونه قسما، من جهة أن القسم إنما يؤتى به توكيدا على المقسم عليه، والمراد في الآية التوكيد على نصر الله، عز وجل، لمن تحقق فيه وصف: (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)، ويرجح ذلك دخول اللام على: "ليستخلفنهم"، وتوكيد الفعل بنون التوكيد المثقلة، فاجتمعت في السياق ثلاثة مؤكدات: القسم المقدر واللام ونون التوكيد في جوابه، وتكرر التوكيد في: (وَلَيُمَكِّنَنَّ)، و: (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ)، لأنها داخلة في حد الجزاء، من جهة الصناعة النحوية: فهي معطوفة على: "لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ".
ومن جهة المعنى: فهي من لوازم نصر الله، عز وجل، من أخلص له الدين وعمل بالتنزيل.
ثم ذكر، عز وجل، مآل الكافرين على جهة المقابلة، فقال: (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وأشار إليهم باسم الإشارة للبعيد: "أولئك" تحقيرا وإهانة كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أكثر من موضع.
قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ):
أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهو على أصله: للوجوب، فلا صارف له، وبيان إجماله في سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبنحو هذا استدل الصديق، رضي الله عنه، في حربه لمانعي الزكاة، فهي قرينة الصلاة، وقد أجمعت الأمة على قتل تارك الصلاة: حدا أو ردة، على تفصيل في كتب الفروع، وقتالهم إذا كانوا جماعة لهم شوكة، فكذا الزكاة: تؤخذ قهرا من مانعها، ونصفُ ماله عقوبة، كما في حديث بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، مرفوعا، وفيه: ( ............................ وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ)، ويقاتل تاركوها إن كانوا جماعة لهم شوكة.
وقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ): عموم بعد خصوص، فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من أفراد عموم طاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلة ذلك: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، أي: لترحموا، فـ: "لعل" في الكتاب العزيز تفيد التعليل.
قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ):
قوله: (لا تحسبن): نهي مؤكد بنون التوكيد المثقلة، فبني المضارع معها على الفتح.
وفي قوله: (ولبئس المصير): اللام: توكيد على مصيرهم المذموم، والمخصوص بالذم محذوف لدلالة السياق عليه، فتقدير الكلام: ولبئس المصير النار، ومثله في المدح: قوله تعالى: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، أي: نعم العبد أيوب عليه الصلاة والسلام، لدلالة السياق عليه، وحذف ما دل السياق عليه أمر مطرد في كلام البلغاء، فكلام الباري، عز وجل، أولى به من كلام البشر، كما سبق التنبيه على ذلك في أكثر من موضع.
والله أعلى وأعلم.
¥