وحينما بلغ الرابعة انفصل أبواه عن بعضهما، فغادر أبوه إلى الشارقة وتزوجت أمه في قرية أخرى،أما هو فقد بقي عند جده لأمه .. يقول القصيمي: ((كل ما أعيه من الأيام الأولى لهذه الطفولة، أنني وجدت مع جدي لأمي الذي كان القحط الإنساني، والقحط الطبيعي، وكوارث أخرى قد امتصت منه كل شيء، أي أن كلمة (فقر) لا بد أن تكون مظلومة لوقلت: إنه كان فقيراً جداً .. ، أجرت نفسي بلا أجر، نعم بلا أجر))
وفي العاشرة هرب من جده وبدأ بالبحث عن أبيه، وقاده البحث إلى الاستقرار في مخيم للمهاجرين في مدينة الرياض، واتفق أن قدم وفد دبلوماسي من الشارقة إلى الرياض، وكان رئيس الوفد صديقاً لأبي القصيمي فأرتحل معهم إلى الشارقة.
- المحطة الثانية: وصل إلى الشارقة ولما يتجاوز الحادية عشرة، وكان أبوه متديناً، ويعمل في التجارة ويمارس الوعظ في المساجد، ويتسم بالورع والتقشف. فكيف وجد القصيمي أباه بعد غيبة تتجاوز السبع سنوات؟ يقول عن لقائه بأبيه: ((وصلت إلى حيث يقيم والدي، ولأول مرة رأيت ولقيت وجربت الأبوة، كانت صدمة قاسية لأكثر وأبعد من كل حساب .. ، ومنذ بداية تلاقينا راح يقسو عليَّ قسوة يصعب وصفها، بل يهاب ويرهب وصفها؛ بزعم أنه يريد أن يجمع كل العلوم التي يعرفها أو يتصورها أو يسمع بها، وكل أخلاق السلوك المهذب الذي يراه، كل الكمال أن يجمع ذلك كله في لقمة واحدة لا بتلعها مرةً واحدة بلا تذوق ولا مضغ، لقد بدا وكأنه يرى العذاب والآلام التي قاسيت قبل لقائه، أقل وأرحم مما يجب أن أقاسي)).
- المحطة الثالثة: توفي أبوه بعد لقائه به بسنتين حوالي عام 1922 م، ومن ثم أصبحت المدرسة الداخلية التي يتعلم فيها هي كل حياته.
بعد ذلك رافق القصيمي ابن راشد الذي يكبره بعدة سنوات في جولة علمية بدأت بالعراق حيث درسا في مدرسة محمد أمين الشنقيطي، وبعد بضعة شهور غادرا إلى الهند فمكثا هناك سنتين يدرسان في (المدرسة الرحمانية) ثم عاد إلى العراق ثم إلى سوريا، ومن هناك سافر القصيمي برفقة ابن راشد، وعبد الله بن يابس إلى القاهرة، والتحقوا بالأزهر وكان عمر القصيمي تسعة عشر عاماً.
سلفي ... علماني ... ملحد
* الفترة الثانية: حياته الفكرية: مرت حياته الفكرية بثلاث مراحل: المرحلة السلفية، والمرحلة العلمانية ومرحلة الإلحاد.
المرحلة الأولى: المرحلة السلفية
ولعله من نافلة القول أن تكون (السلفية) هي مرحلته الفكرية الأولى، فهو قد ولد في وسط سلفي،وتعلم على أيدي مشائخ سلفيين، وقد امتدت مرحلة عطائه السلفي حوالي أربعة عشر عاماً، فقد وصل إلى القاهرة عام 1922م وألف كتابه (هذي هي الأغلال) عام 1946 م ولعل أبرز محطات مرحلته السلفية ثلاث محطات:
- المحطة السلفية الأولى (الصراع مع الصوفية): حينما انتقل القصيمي إلى القاهرة ودخل الأزهر، وجد عالماً يزخر بالتنوع الفكري حيث وجد هناك التوجه العلماني الليبرالي ممثلاً بلطفي السيد ومحمد حسين هيكل، والتوجه السلفي ويمثله رشيد رضا، والتوجه الإسلامي التقليدي الأشعري ويمثله الأزهر، والتوجه الصوفي ويمثله الفرق الصوفية، وفي تحليل فازلا لواقع الأزهر آنذاك يشير إلى أنه كان موطن صراع بين التوجهات الفكرية، والقوى السياسية، فكل توجه فكري وكل قوة سياسية كانت تناضل لتعيين عميد مؤيد لتوجهاتها.
وفي سنة 1930 م تولى الشيخ الظواهري عماده جامعة الأزهر، فأخذت الجامعة تتبنى خطاً ودياً تجاه التصوف؛ مما لقي انتقاداً عنيفاً لدى الحركة السلفية حول رشيد رضا، وكانت المعارك الصحفية تنشب بين (المنار) صوت السلفيين، ومجلة الأزهر (نور الإسلام) صوت الأزهريين المؤيدين للتصوف، وكان بين العلماء البارزين في الأزهر آنذاك يوسف الدجوي الذي لمع بشكل خاص في دفاعه عن التصوف والتوسل بالأولياء، فألف القصيمي في الرد عليه كتابه الشهير" البروق النجدية في اكتساح الظلومات الدجوية " عام 1931م وهاجم فيه بعنف طقوس الصوفية، وتقديس الأضرحة والتوسل بها، بعد ذلك أدى هذا الكتاب إلى رد فعل قاس لدى قيادة الأزهر، حيث فصلت القصيمي عام 1931م من الجامعة.
¥