الثالث: أن أبا هريرة هو الذي روى حديث: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأمِّ القرآن فهي خداج»، وهو أصح (أخرجه مسلم)، وقد أفتى - رضي الله عنه - بعد روايته لهذا الحديث بقراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام، حيث قال: اقرأ بها في نفسك. وهذه عِلَّةٌ للحديث الذي يُعترض به: «ما لي أنازع القرآن».
الرابع: أن حديث أبي هريرة عامٌّ، يخصصه حديث عبادة في الصحيحين، وحديثه الذي في السنن، وكذا حديث ابن أبي عائشة عن رجل من الصحابة - وقد سبق بيان وجه ذلك -.
قال الشوكاني (النيل: 1/ 787): ( ... وأيضاً لو سُلِّم دخول ذلك - يقصد: حديث أبي هريرة - في المنازعة، لَكَان هذا الاستفهام الذي للإنكار عاماً لجميع القرآن أو مطلقاً في جميعه، وحديث عبادة خاصاً ومقيداً).
د- من دليل العقل: أن الإمام يجهر ليُسمع المأمومين- ولذلك يؤمنون على قراءته -، فإذا انشغل المأمومون بالفاتحة فما الفائدة من جهر الإمام؟ فيكون الإمام كأنه مأمور بأن يقرأ على قوم لا يستمعون إليه.
والجواب عن هذا: أن يقال: إن الدليل دلَّ - صريحاً - على أن المأمومين يقرؤون الفاتحة خلف الإمام ولو جهر، فلا نعترض على ذلك بعقل، وهذا قياس مقابل النص، فهو مُطَّرح (انظر: الشرح الممتع، للعثيمين: 3/ 302).
ه- من دليل العقل: أنه لو كانت القراءة في الجهر واجبة على المأموم لَلَزِمَ أحد أمرين: إما أن يقرأ مع الإمام، أو أنه يجب على الإمام السكوت حتى يقرأ المأموم الفاتحة، والأول منهي عنه، والثاني لم يقل به أحد.
والجواب عن هذا: أنَّ قولَهُ: (إن الأولَ منهي عنه) ليس على إطلاقه، فقد ثبت إيجابه - لا جوازه فقط - في قراءة الفاتحة - فحسب -، وأجبنا عما ثبت من الأدلة على النهي عن القراءة فيما سبق.
و- من العقل أيضاً: أن المأمومين لو قرؤوا والإمام يقرأ فلم يستمعوا لقراءته، فكيف يؤمنون على شيء لم ينتبهوا له.
والجواب عن هذا أن يقال: إن لازم ذلك أن المأموم إذا دخل مع الإمام في أثناء قراءته الفاتحةَ، فإنه لا يؤمن، وكيف يؤمن على شيء لم يسمعه
أصلاً؟!! ومثله من لم يسمع إلا آخر الفاتحة، فيلزم من هذا القول أنه لا يؤمن مع الإمام! وهذا لا يقال به.
(5) ومما استدل به الشيخ - حفظه الله - أن أدلة موجبي القراءة مختلف فيها، وعورضت بأقوى منها، ويجاب عنه بأن أدلة موجبي الاستماع إما مختلف فيها أيضاً، أو عامةٌ عورضت بمخصصات قوية.
فالذي نتوصل إليه: أن القول بوجوب قراءة المأموم للفاتحة - ولو جهر الإمام - أقوى من القول بعدم ذلك، لكن مع الاتفاق بأنه إذا قرأ في سكتة الإمام - إن سكت بعد الفاتحة - كان أفضل له، ومع الاتفاق أيضاً أنه لا يجهر بها فيؤذي الإمام وينازعه القراءة، بل يقرؤها - كما أفتى أبو هريرة - في نفسه.
ومما يؤيد ذلك:
1. أنه لا دليل على أن الإمام يتحمل قراءة الفاتحة - هي بخاصةٍ - عن المأموم، وأما القول بأن أدلة إيجاب الإنصات تدل على ذلك، فليس الأمر كذلك، لأنها عامة في كل القرآن، وقد دلَّ الدليل على اختصاص الفاتحة منها بوجوب قراءتها على المأموم ولو جهر الإمام، فمعناه أن الإمام لا يتحملها.
2. أن قراءتها هو الأبرأ لذمة المأموم، وهو الأسلم له، كيف لا وَتَرْكُ الفاتحة أمرٌ خطير، كما في حديث عبادة: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، وهو هنا عَمَّ كُلَّ مصلٍّ.
3. أن الفاتحة هي الصلاة، كما في حديث أبي هريرة: (قال الله تعالى: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:
? الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ ? قَالَ الله تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي ... ) الحديث، فإذا تركها - لأي سبب - كان كمن بطلت صلاته، أو كمن لم يأتِ بها أصلاً، والله - سبحانه وتعالى - قال: «بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي»، فعمَّ اللفظُ كلَّ عبد من عباد الله يصلي، إماماً أو منفرداً أو مأموماً.
4. أنه - إن سلمنا أنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالوجوب (وقد تبين لنا أنه صحيح من حديث عبادة، وإن لم يصح، فيشهد له حديث الرجل من الصحابة، فالمتن بالجملة صحيح) - فقد صحَّ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحد الخلفاء الراشدين، الذي أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأخذ بسنتهم، صح عنه أنه أمر بقراءة الفاتحة خلف الإمام فيما رواه ابن أبي شيبة قال: نا هشيم، قال: أخبرنا الشيباني، عن جَوَّاب بن عُبيد الله التيمي، قال: حدثنا يزيد بن شريك التيمي أبو إبراهيم التيمي، قال: (سألت عُمر بن الخطاب عن القراءة خلف الإمام، فقال لي: «اقرأ»)، قال: (قلت: وإن كنت خلفك؟، قال: «وإن كنت خلفي»، قال: «وإن قرأت». وفي رواية للدارقطني والحاكم والبيهقي: قال يزيد: (وإن جهرت؟)، قال: «وإن جهرت».
قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح (يعني إسناده: حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا، ثنا أبو كريب، ثنا حفص بن غياث، عن الشيباني - يعني: أبا إسحاق -، به).
ختاماً:
لا أعتقد إلا أن الشيخ - حفظه الله - يدرك كل هذا، لكنه قد يكون خفي عليه أمر، أو لم يتبين، فهو معذور - إن شاء الله -.
هذا، والله أعلم، وهو أجل وأحكم، ونسب العلم إليه أسلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ملحوظة: أنا بصدد إرسال هذه الملحوظات للشيخ - حفظه الله - على البريد، فإن كان أحدكم يعرف له بريداً إلكترونياً، فليتحفني به، جزاه الله خيراً.
¥