فلك أن تتعجب من هذا الشيخ الكبير الذي رأى في المنام أنه يذبح ابنه الذي جاءه بعد أن بلغ من الكبر عتيا، لقد كان الابن وحيد إبراهيم ولم يأته إلا على كبر فما ظنك بتعلق الأب بابنه، إنه تعلق لا يوصف، ولم يكن الابن صغيراً بحيث لم ير الأب من جدواه ما يجعله شديد التعلق به والاعتماد عليه، ولكنه بلغ مع أبيه السعي فأصبح فتى يتقلب أمام عين أبيه، ولكن تعلقه بالله أعظم، وطاعته لله فوق كل ذلك، لقد حطم إبراهيم كل نداءات الأرض لما جاء الأمر من السماء، وضرب للناس أروع الأمثال في الطاعة، ولقد كان الوحي في هذه المرة رؤيا فلم يتأولها إبراهيم لصالحه بدافع من غريزة الأبوة، ولكنه امتثل وعرض على ابنه ما رأى عرضاً في غاية الإيجاز والسهولة
وإن تعجب فاعجب من هذا الابن الذي يستسلم لأمر الله طواعية واختياراً،
وكانت إجابة الابن محيرة حقاً، لقد حسم الموقف: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين}
أي لا تأخذ رأيي ولا تنتظر مشورتي بل نفذ ما أمرت به، ثم لا ينسى أن يستمد العون من الله على حاله بالصبر، وصدقا وأسلم الوالد ولده، وتله أبوه للجبين، وتهيأ للذبح وجاءت البشرى عند ذاك بعد أن حقق الابتلاء ثمرته.
ب - أما عن أمثلة الصبر عن معصية الله:
فأعظم مثال لذلك في كتاب الله صبر يوسف - عليه السلام - على مراودة امرأة العزيز،
فلقد رفض كل العروض والإغراءات،
وخرج من الفتنة بإيمانه وصبره،
ولاسيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة:
1 - فإنه كان شابا، والشهوة تجرى في دمه.
2 - وعزباً ليس معه أمة أو زوجة ترد شهوته.
3 - وغريباً، والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي فيه بين أصحابه وأهله.
4 - ومملوكاً، والمملوك ليس وازعه كوازع الحر.
فهذت أربعة في حق يوسف - عليه السلام -، وأربعة أخرى في حق امرأة العزيز، وهي أن:
5 - المرأة جميلة، وقلوب الرجال تهوى الجمال،
6 - وذات منصب، تحميه وتمنعه من الفضيحة.
7 - وهي الداعية إلى نفسها والحريصة على ذلك أشد الحرص.
8 - وتوعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار.
ثم إنه:
9 - قد غاب الرقيب.
فماذا كان من يوسف - عليه السلام -؟!
كان عملاقا من عمالقة الصبر،
فضحى بدنياه من أجل دينه،
وضحى بحريته من أجل عقيدته،
وقال قولته المشهورة: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}
ج - وأما عن الصبر على أقدار الله المؤلمة:
إن أشهر من يقرن اسمه بهذا اللون من الصبر نبي الله أيوب - عليه السلام -، لقد أصابه ضر عظيم في بدنه وأهله وماله فصبر، فخلد ذكره في القرآن فقال الله تعالى:
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَاب*ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَاب*وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَاب*وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب} (ص: 41 - 44)
لقد ذكر له من ألوان التكريم وأوسمة الشرف ما هو جدير بمثله لعظيم صبره: تكريمه بتخليد ذكره ومباهاة الله به عند رسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، عندما استجاب نداءه وكشف ضره ووهب له أهله ومثلهم معهم، حينما جعل له مخرجاً من يمين حلفه على امرأته فكرمت وكرم بما يخلصه من مأزق الحنث، وكانت خاتمة ذلك هذا الوسام {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب}،
فوصفه بالصبر حتى قرن الصبر بأيوب فلا يذكر إلا وهو معه،
ثم قال: نعم العبد فكانت شهادة من الله بتمام عبوديته،
ثم ختم ذلك بقوله إنه أواب،
والأواب: المبالغ في شدة رجوعه إلى الله تعالى.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من عباده الصابرين المحتسبين،،،
ـ[محمود آل زيد]ــــــــ[16 - 11 - 07, 12:45 م]ـ
الحمد لله الذي من اتقاه وقاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن تاب إليه تاب عليه وهداه، ومن أناب إليه قبله ونجاه، ومن أذل نفسه في طاعته أعزه وأعلاه، ومن أطاع أمره رضي عنه وأرضاه، ومن عصى أمره أذله وأخزاه،
¥