ومَهْمَا يَكُنْ، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ يا طَالِبَ العِلْمِ عَلَيْهِم حَسَرَاتٍ؛ فإنَّه لَمَّا مَاتَ شَيْخُ الإسْلامِ وقُدْوَةُ العُلَمَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: "مَعْشَرَ أهْلِ الَهَوى كُلُوا الدُّنْيا بالدِّيْنِ، فَقَدْ مَاتَ سُفْيَانُ! " ()، يَعْنِي: مَا بَقِي بَعْدَهُ أحَدٌ يُسْتَحْيَا مِنْه!، قُلْتُ: فإنْ لَمْ يَكُنْ سُفْيَانُ، فاللهُُ أحقُّ أنْ يُسْتَحْيَ مِنْه!
* * *
ولا يَهُوْلنَّكَ يا طَالِبَ العِلْمِ مَا هُنَالِكَ مِنْ نَوَابِتَ نَكِدَةٍ لَمْ تَزَلْ تَسْعَى جَاهِدَةً فِي إحْيَاءِ مُخَالَفَةِ مَسَالِكِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي الدُّخُوْلِ عَلَى السَّلاطِيْنِ والأمَرَاءِ، وذَلِكَ بدَفْعِ طُلابِ العِلْمِ إلى مَرَاتِعِ الشَّهَوَاتِ، ومَهَالِكِ الشُّبُهَاتِ؛ ليَهِيْمُوا فِي "وَادِي تُضُلِّلَ"، مِمَّا قَدْ تَعْصِفُ بِمَا بَقِيَ مِنْ عِزَّةِ أهْلِ العِلْمِ!
وذَلِكَ مِنْ خِلالِ دَعَوَاتٍ عَرِيْضَةٍ (مَرِيْضَةٍ!)، وتَصَانِيْفَ بَتْرَاءَ دَاعِيَةً مَضَامِيْنُها وعَنَاوِيْنُها إلى الدُّخُوْلِ عَلَى الأمَرَاءِ والسَّلاطِيْنِ، ولَوْ بِشَرْطِ: الأمْرِ بالمَعْرُوْفِ، والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ!، فاحْذَرْ يا طَالِبَ العِلْمِ، وانْجُ بِعِلْمِكَ، وفِرَّ بدِيْنِكَ فإنَّه رَأسُ مَالِكَ، واعْلَمْ إنَّ هَذَا الشَّرْطَ كَانَ عِنْدَ السَّلَفِ عَزِيْزًا عَسِيْرًا، أمَّا اليَوْمَ فأدْعِيَاءُ الشَّرْطِ كَثِيْرٌ، والعَامِلُوْنَ بِه نَزْرٌ يَسِيْرٌ، لا يَتَجَاوَزُوْنَ أصَابِعَ اليَدِ الوَاحِدَةِ!
ويَكْفِي هُنَا مَا ذَكَرَه ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: "فَقَدْ كَانَ كَثِيْرٌ مِنَ السَّلَفِ يَنْهَوْنَ عَنِ الدُّخُوْلِ عَلَى المُلُوْكِ لِمَنْ أرَادَ أمْرَهُم بالمَعْرُوْفِ ونَهْيَهُم عَنِ المُنْكَرِ أيْضًا، ومِمَّنْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ: عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ، وابنُ المُبَارَكِ، والثَّوْرِيُّ، وغَيْرُهُم مِنَ الأئِمَّةِ.
وقَالَ ابنُ المُبَارَكِ: لَيْسَ الآمِرُ النَّاهِي عِنْدَنا مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِم (السَّلاطِيْنِ) فأمَرَهُم ونَهَاهُم، إنَّمَا الآمِرُ النَّاهِي مَنِ اعْتَزَلَهُم!
وسَبَبُ مَا يُخْشَى مِنْ فِتْنَةِ الدُّخُوْلِ عَلَيْهِم، فإنَّ النَّفْسَ قَدْ تُخَيِّلُ للإنْسَانِ إذَا كَانَ بَعِيْدًا أنَّه يَأمُرُهُم ويَنْهاهُم ويُغْلِظُ عَلَيْهِم، فإذَا شَاهَدَهُم قَرِيْبًا مَالَتْ النَّفْسُ إلَيْهِم، لأنَّ مَحَبَّةَ الشَّرَفِ كَامِنَةٌ فِي النَّفْسِ لَهُ، ولِذَلِكَ يُدَاهِنُهُم ويُلاطِفُهُم، ورُبَّمَا مَالَ إلَيْهِم وأحَبَّهُم، ولاسِيَّمَا إنْ لاطَفُوْه وأكْرَمُوْه، وقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُم، وقَدَ جَرَى ذَلِكَ لعَبْدِ اللهِ بنِ طَاوُوْسٍ مَعَ بَعْضِ الأمَرَاءِ بِحَضْرَةِ أبِيْه طَاوُوْسَ فَوَبَّخَهُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ.
وكَتَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إلى عَبَّادِ بنِ عَبَّادٍ، وكَانَ فِي كِتَابِهِ: "إيَّاكَ والأُمَراءَ أنْ تَدْنُو مِنْهُم، أو تُخَالِطَهُم فِي شَيْءٍ مِنَ الأشْيَاءِ.
وإيَّاكَ أنْ تُخْدَعَ ويُقَالُ لَكَ: لتَشْفَعَ وتَدْرَأ عَنْ مَظْلُوْمٍ أو تَرُدَّ مَظْلَمَةً، فإنَّ ذَلِكَ خَدِيْعَةُ إبْلِيْسَ، وإنَّمَا اتَّخَذَها فُجَّارُ القُرَّاءِ سُلَّمًا، ومَا كُفِيْتَ عَنِ المَسْألَةِ والفُتْيا فاغْتَنِمْ ذَلِكَ، ولا تُنَافِسْهُم" () انْتَهَى.
وقَالَ سُفْيَانُ أيْضًا: "مَا أخَافُ مِنْ عُقُوْبَتِهِم، إنَّما أخَافُ مِنْ كَرَامَتِهِم! " ().
ولِهَذَا قَالَ الإمَامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: " فِتْنَتِي بالمُتَوَكِّلِ أعْظَمُ مِنْ فِتْنَتِي بالمُعْتَصِمِ! " يُشِيْرُ إلى الإكْرَامِ ().
ورَحِمَ اللهُ ابنَ عَبْدِ البَرِّ إذْ يَقُوْلُ عَنْ مَجَالِسِ أمَرَاءِ العَدْلِ والفَضْلِ: "الفِتْنَةُ فِيْها أغْلَبُ، والسَّلامَةُ مِنْها تَرْكُ مَا فِيْها" ().
* * *
¥