ومَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا؛ مِنْ عَدَمِ الدُّخُوْلِ عَلى السُّلْطَانِ فَلَيْسَ بِدَعًا مِنَ القَوْلِ ولا هُجْرًا، ومَا كَانَ حَدِيْثًا يُفْتَرى؛ بَلْ هُوَ مِنْ جَادَّةِ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ وأئِمَّةِ الدِّيْنِ، وإنْ كَانَ للدُّخُوْلِ عَلَيْهِم مِنْ حَتْمٍ أو مَنْدُوْحَةٍ عَلى بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ؛ فكَما يَلي:
أوَّلاً: أنْ يَكُوْنَ الدُّخُوْلُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَابِ أمْرِهِ بالمَعْرُوْفِ ونَهيِهِ عَنِ المُنْكَرِ، وإلاَّ.
ثَانِيًا: أنْ يَكُوْنَ الدُّخُوْلُ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ التَّذْكِيْرِ والموْعِظَةِ، وإلاَّ.
ثالثًا: أنْ يَكُوْنَ الدُّخُوْلُ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ إجَابَةِ دَعْوَةِ السُّلْطَانِ، وذَلِكَ فِيْما لَوْ أمَرَهُ وَليُّ الأمْرِ بالدُّخُوْلِ والمَجِيءِ، وإلاَّ.
فإنَّا وإيَّاكَ؛ لَنْ نَنْسَ "ومَنْ أتَى أبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتَتَنْ"، و" إيَّاكُم وأبْوَابَ السُّلْطَانِ؛ فإنَّه قَدْ أصْبَحَ صَعْبًا هَبُوْطًا"، "وإيَّاكَ أنْ تُخْدَعَ فإنَّ ذَلِكَ خَدِيْعَةُ إبْلِيْسِ، و"السُّلْطَانُ دَاءٌ، والعَالِمُ طَبِيْبٌ، فإذَا رَأيْتَ الطَّبِيْبَ يَجُرُّ الدَّاءَ إلى نَفْسِه فاحْذَرْهُ"، فاحْذَرَ أنْ يُرَحِّبُوا بِكَ فَتَمِيْلَ إليْهِم مَيْلاً عَظِيْمًا، والسَّلامُ عَلَيْكَ يا طَالِبَ العِلْمِ والعزَّةِ!
* * *
* أمَّا العَائِقُ الثَّالِثُ: أنْ تَحْذَرَ يَا طَالِبَ العِلْمِ مِنَ الاشْتِغَالِ والنَّظَرِ فِي دَرَكَاتِ الهُوْنِ والدُّوْنِ، مِنْ عُلُوْمِ أهْلِ زَمَانِنَا، ومَا هُمْ فِيْه مِنْ شَارَاتٍ وضْعِيَّةٍ ()، وألْقَابٍ جَوْفَاءَ، مَا أنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ أو بُرْهَانٍ، اللَّهُمَّ هَوَىً وظُنُوْنًا يَتَغَشَّوْنَ بِهَا مَجَالِسَ العِلْمِ، ليَسْتَبِيْحُوا بِهَا زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيا، إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي!
واعْلَمْ يَا رَعَاكَ اللهُ: إنَّ العِلْمَ مَا جَاءَ عَنِ الكِتَابِ، والسُّنَّةِ، وأصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهَذَا مَا أجْمَعَ عَلَيْه سَلَفُ الأمَّةِ.
قَالَ الإمَامُ الأوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "العِلْمُ مَا جَاءَ عَنْ أصْحَابِ مُحَمَّدٍ، ومَا لَمْ يَجِيء عَنْهُم فَلَيْسَ بِعِلْمٍ" ().
وهَاكَ يا طَالِبَ العِلْمِ هَذِه القَاعِدَةَ السَّلَفِيَّةَ فِي وِزَانِ عُلُوْمِ السَّلَفِ وعُلُوْمِ الخَلَفِ، وهُوَ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: "العِلْمُ المَوْرُوْثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ؛ فإنَّه هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أنْ يُسَمَّى عِلْمًا، وما سِوَاهُ إمَّا أنْ يَكُوْنَ عِلْمًا فَلا يَكُوْنُ نَافِعًا.
وإمَّا أنْ لا يَكُوْنَ عِلْمًا وإنْ سُمِّيَ بِه، ولئِنْ كَانَ عِلْمًا نَافِعًا فَلابُدَّ أنْ يَكُوْنَ فِي مِيْرَاثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ مَا يُغْنِي عَنْه مِمَّا هُوَ مِثْلُه وخَيْرٌ مِنْه! " ().
وقَالَ أيْضًا رَحِمَهُ اللهُ فِي أهَمِيَّةِ مُخَالَفَةِ أعْمَالِ الكُفَّارِ؛ ولَوْ كَانَ فِيْه إتْقَانٌ: "فإذًا المُخَالَفَةُ لَهُم (أيْ: مُخَالَفةُ الكُفَّارِ) فِيْها مَنْفَعَةٌ وصَلاحٌ لَنا فِي كُلِّ أمُوْرِنا؛ حَتَّى مَا هُم عَلَيْه مِنْ اتْقَانِ بَعْضِ أمُوْرِ دُنْيَاهُم؛ قَدْ يَكُوْنُ مُضِرًا بأمْرِ الآخِرَةِ، أو بِمَا هُوَ أهَمُّ مِنْهُ مِنْ أمْرِ الدُّنْيَا، فالمُخَالَفَةُ فِيْه صَلاحٌ لَنَا" ().
* * *
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، ويَنْقُصُ العِلْمُ، وتَظْهَرُ الفِتَنُ، ويَكْثُرُ الهَرْجُ، قِيْلَ يَا رَسُوْلَ اللهِ: أيْمُ هُوَ؟ قَالَ: القَتْلُ القَتْلُ" ().
وفِي هَذَا الحَدِيْثِ نُكْتَةٌ عِلْمِيَّةٌ نَفِيْسَةٌ ذَكَرَها الإمِامُ الحَافِظُ أبُو حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللهُ بِقَوْلِه: "فِي هَذَا الخَبَرِ دَلِيْلٌ عَلَى أنَّ مَا لَمْ يَنْقُصْ مِنَ العِلْمِ لَيْسَ بعِلْمِ الدِّيْنِ فِي الحَقِيْقَةِ، وفِيْه دَلِيْلٌ عَلَى أنَّ ضِدَّ العِلْمِ يَزِيْدُ، وكُلُّ شَيْءٍ زَادَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَرْجِعُه إلى الكِتَابِ والسُّنَّةِ فَهُوَ ضِدُّ العِلْمِ" () انْتَهَى.
¥