وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِه خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّيْنِ" ()!
ومِنْه نَعْلَمُ قَطْعًا؛ أنَّ كُلَّ عِلْمٍ لَمْ يَكُنْ مِنَ الدِّيْنِ فَلَيْسَ بفِقْهٍ، ومَنِ اشْتَغَلَ بغَيْرِه فَلَيْسَ مِمَّنْ أرَادَ اللهُ بِه خَيْرًا أصَالَةً لا حِوالَةً ()!
* * *
وعَلَيْه؛ فاعْلَمْ إنَّ هَذِه العُلُوْمَ الطَّبِيْعِيَّةَ وغَيْرَها مِمَّا هِيَ مِنْ عُلُوْمِ الدُّنْيا (الطَّبِيْعَيَّةَ، الهَيْئَةَ، الرِّياضِيَّةَ، الهَنْدَسَةَ، الطِّبَّ وغَيْرَها) () الَّتِي لَمْ تَزَلْ تَزْدَادُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ؛ بأنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ بِشَيْءٍ، كَمَا أنَّه لا يَضُرُّ الجَهْلُ بِها، ولا يَنْفَعُ العِلْمُ بِها، بَلْ هِي عُلُوْمٌ دِنْيَوِيَّةٌ؛ المَقْصُوْدُ مِنْهَا عِمَارَةُ الدُّنْيَا!
يَقُوْلُ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ:" لَكِنَّ المَقْصُوْدَ أنْ يُعْرَفَ أنَّ الصَّحَابَةَ خَيْرُ القُرُوْنِ، وأفْضَلُ الخَلْقِ بَعْدَ الأنْبِيَاءِ.
فَمَا ظَهَرَ (مِنَ العُلُوْمِ) فِيْمَنْ بَعْدَهُم مِمَّنْ يَظُنُّ أنَّها فَضِيْلَةٌ للمُتَأخِّرِيْنَ، ولَمْ تَكُنْ فِيْهِم فإنَّها مِنْ الشَّيْطَانِ، وهِي نَقِيْصَةٌ لا فَضِيْلَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ العُلُوْمِ، أو مِنْ جِنْسِ العِبَادَاتِ، أو مِنْ جِنْسِ الخَوَارِقِ والآيَاتِ، أو مِنْ جِنْسِ السِّيَاسَةِ والمُلْكِ؛ بَلْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَهُم أتْبَعَهُم لَهُم" () انْتَهى.
وقَالَ أيْضًا رَحِمَهُ اللهُ فِي مَعْرَضِ رَدِّه عَلَى أرْبَابِ العُلُوْمِ الدِّنْيِوَيَّةِ، لاسِيَّما أرْبَابُ الفَلْسَفَةِ مِنْهُم:" فإنَّ عِلْمَ الحِسَابِ الَّذِي هُوَ عِلْمٌ بالكَمِّ المُنْفَصِلِ، والهَنْدَسَةِ الَّتِي هِيَ عِلْمٌ بالكَمِّ المُتَّصِلِ عِلْمٌ يَقِيْنِيٌّ لا يَحْتَمِلُ النَّقِيْضَ البَتَّةَ: مِثْلُ جَمْعِ الأعْدَادِ وقِسْمَتِها وضَرْبِها، ونِسْبَةِ بَعْضِها إلى بَعْضٍ ... والمَقْصُوْدُ أنَّ هَذا العِلْمَ الَّذِي تَقُوْمُ عَلَيْه بَرَاهِيْنُ صَادِقَةٌ لَكِنْ لا تَكْمُلُ بِذَلِكَ نَفْسٌ، ولا تَنْجُو مِنْ عَذَابٍ، ولا تُنَالُ بِه سَعَادَةٌ" ().
* * *
يَقُوْلُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي بَيَانِ أنواعِ العُلُوْمِ: " نَوْعٌ تَكْمُلُ النَّفْسُ بإدْرَاكِهِ والعِلْمِ بِه، وهُوَ العِلْمُ باللهِ وأسْمَائِه وصِفَاتِه وأفْعَالِه وكُتُبِه وأمْرِه ونَهْيِه.
ونَوْعٌ لا يَحْصُلُ للنَّفْسِ بِه كَمَالٌ: وهُوَ كُلُّ عِلْمٍ لا يَضُرُّ الجَهْلُ بِه، فإنَّه لا يَنْفَعُ العِلْمُ بِها في الآخِرَةِ.
وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ يَسْتَعِيْذُ باللهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وهَذَا حَالُ أكْثَرِ العُلُوْمِ الصَّحِيْحَةِ المُطَابِقَةِ الَّتِي لا يَضُرُّ الجَهْلُ بِها شَيْئًا: كالعِلْمِ بالفَلَكِ ودَقَائِقِه ودَرَجَاتِه، وعَدَدِ الكَوَاكِبِ ومَقَادِيْرِها، والعِلْمِ بعَدَدِ الجِبَالِ وألْوَانِها ومَسَاحَتِها، ونَحْوِ ذَلِكَ، فَشَرَفُ العِلْمِ بِحَسَبِ شَرَفِ مَعْلُوْمِه، وشِدَّةِ الحَاجَةِ إلَيْه، ولَيْسَ ذَاكَ إلاَّ العِلْمُ باللهِ وتَوَابِعِ ذَلِكَ" () انْتَهَى.
وقَالَ أيْضًا فِي مَعْرَضِ الرَّدِّ عَلَى عُلَمَاءِ الفَلْسَفَةِ: "وإمَّا عِلْمٌ طَبِيْعِيٌّ صَحِيْحٌ غَايِتُه مَعْرِفَةُ العَنَاصِرِ، وبَعْضِ خَوَاصِهَا وطَبَائِعَها، ومَعْرِفَةُ بَعْضِ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْها، ومَا يَسْتَحِيْلُ مِنَ المُوْجِبَاتِ إلَيْها، وبَعْضِ مَا يَقَعُ فِي العَالَمِ مِنَ الآثارِ بامْتِزَاجِها واخْتِلاطِها ... وأيُّ كَمَالٍ للنَّفْسِ فِي هَذِا؟ وأيُّ سَعَادَةٍ لَهَا فِيْه؟! " () انْتَهَى.
¥