لقد كان من مفاخر الحركة العلمية الاسلامية كما أشرنا في الفصل الأول أنها فتحت " العلم " كله، وأبدعت في العلم كله، وكان العالم يكون عالما في العلوم الشرعية وعالما في ذات الوقت في الطب أو الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء بغير تعارض ولا تناقض بين هذا وذاك، وكانت المعاهد العلمية في الأندلس وغيرها تلك التي تعلمت فيها أوربا حين بدأت تخرج من قرونها المظلمة تعلم طلابها كل فروع العلم وألوانه بغير تفريق، وكانت العلوم " الدنيوية " من المعالم البارزة في تلك المعاهد إلي جانب العلوم الشرعية ومن هناك تعلمت أوروبا المنهج التجريبي في البحث العلمي، وترجمت ما كتبه المسلمون في الطب والفلك والفيزياء والكيمياء والرياضيات والبصريات لتتتلمذ عليه في بدء نهضتها الحديثة.
ولكن المسلمين " الغافلين " طردوا تلك العلوم تدريجيا من معاهدهم ليقتصروا علي العلوم الشرعية، مع ما في دراستهم للعلوم الشرعية ذاتها من " تخلف " عن الصورة التي ينبغي أن تكون الدراسة عليها.
وهنا قد يكون تأثير الصوفية أوضح.
فالصوفية هي التي فرَّقت بين الدنيا والآخرة، واتجهت إلي إهمال الدنيا بحجة تزكية الأرواح من أجل الآخرة، وأهملت بالتالي عمارة الأرض، علي أساس أن الأشتغال بها يقل الروح ويذهب عنها شفافيتها وطلاقتها
ومن ثم أهملت كل العلوم المتصلة بتلك العمارة، واعتبرتها نافلة تستطيع الأمة أن تستغني عن أدائها بلا ضير!
نعم قد يكون تأثير الصوفية هنا أوضح، ولكنها لا تستقل بالتأثير، فلو أن المسلمين قاموا بالتكاليف التي كلفهم بها ربهم، ومن بينها إعداد القوة لإرهاب أعداء الله، لوجدوا أنه لزام عليهم أن يتعلموا كثير من تلك العلوم الدنيوية ويتقنوها ويتفوقوا فيها علي أعدائهم، لأنهم بغير هذه العلوم يعجزون عن الوفاء بأمر ربهم وتكليفه ,
ولكن التفلت من التكاليف كان يؤثر إلي جانب الصوفية في إهمال تلك العلوم وعدم الاحساس بالحاجة إليها ـ،
كما أن الفكر الإرجائي موجود دائما في الساحة يغطي كل نقص أو تقصير!.
ورويدا رويدا فقدت الأمةحاستها العلمية بتاتا، وخرجت من الدائرة التي كانت هي مركزها في يوم من الأيام،
يوم كانت هي الأمة العالمة في الأرض، وأوروبا تهرع إليها لتتلمذ على ما لديها من العلم.
أما العلوم الشرعية فقد تأثرت هي الأخرى بروح (التقلص) العامة التي غشت العالم الإسلامي من أكثر من وجه
فمن ناحية قل الإقبال على العلم عند الناس , فتقشت الأمية والجهل في الأمة، بنفس المقدار الذي كانت أوروبا تزيل به أميتها وتفتح المدارس لنشر العلم!
ومن ناحية أخرى جمدت العلوم الشرعية علي صورتها التي كانت تدرس بها قبل خمسة قرون علي الأقل بما كان قد دخل فيها من غزو فكري إغريقي، ومن علم كلام لا يغني ولا ينفع، فوق تحويله دراسة العقيدة إلي معاظلات ذهنية باردة معقدة تفرغ العقيدة من محتواها الحي، وتحليلها إلي (قضايا) فلسفية مثيرة للجدل بغير نتيجة ولا غاية!
وفوق ذلك كله فقد تحول الطلاب إلي حفظة , لا مفكرين يتعالم الواحد منهم بمقدار ما يحفظ من المتون والشروح والحواشي، ولكنه لا يفكر لنفسه ولا يفكر بنفسه،
ففقد" العلماء " أصالة العلم وأصبحوا مجرد نقله مقلدين،
بل أصيف إلي ذلك شر ثالث، هو التعصب المذهبي الذي عم الدارسين، كل يتعصب لمذهبه الذي نشا عليه، ويجعل قصارى " جهاده " من أجل دينه أن يثبت تفوق مذهبه وشيوخه علي المذاهب الأخري وشيوخها، وأن يدخل في معارك من أجل المذهب تتجاوز في كثير من الأحيان حد الجدل باللسان، إلي التدافع بالأيدي والأبدان!
وفشت الفرقة والتنابذ بين أصحاب المذاهب المختلفة , حتى إن أحدهم قد يرفض أن يصلي خلف إمام من غير مذهبه، بل قد يقاتل أخاه في الصلاة لأنه رآه إلي جواره يرفع يديه أو يضعهما علي صدره بما يخالف مذهبه،
ويحسُّ أن مقاتلته لأخيه في الإسلام علي هذا النحو هي " الخدمة " التي يؤديها للإسلام!!
وحين يكون هذا حال الدراسين من الأمة في المعاهد الدينية بعد أن تحولت بقية الأمة إلي أميين " لا يعلمون الكتاب إلا أماني " فأي فراغ من حقيقة الدين يملأ النفوس، وأي تفاهة في اهتمامات الناس، بعد أن كان الدين هو محور الحياة ومحركها، وباعث الاهتمامات الجادة ومُوَجِّهَها
¥