[حضارة الجمال ((بلاد الأندلس))]
ـ[أبوصهيب المغربي]ــــــــ[30 - 12 - 09, 12:08 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم:
حضارة الجمال
هي الأندلس لما احجمت في حسنها و بهائها، و انسل عقد الإسلام من عنقها، فانحدر درها تباعا، حتى فجعنا الدهر في آخر درة كانت سُلُوَّ المسلمين، ما إن سقطت حتى تساقطت مدامعنا و آمالنا و امانينا، فما البكا و النحيب بعد فقدها يجدي.
هي التي سقت التاريخ من نمير نَضْرتها و جمالها، حتى صيَّرتها جِنانًا فينانة، و بكل أصناف الحُلى مُزدانة، فإذا أتيت تتلمس تاريخها و أصالتها و عراقتها، سبتك زهورها المتفتقة، و ورودها المونقة، بنسيمها الفياح، و شذاها السياح، فتبصر الطروس، تشرق كالشموس، و إذا أنت أطلت النظر في تاريخ منشئها و مولدها، أحسست بأنها خريدة هيفاء حسناء، و شادن نجلاء غيداء،قد كُسيتْ غِلالة تَشِفُّ عن مفاتنها، حتى إذا رُمتها أبتْ، و أحالت الوصال صدا و هجرا، فهي تدنيك حتى إذا أمكنتَ منها، ألفيتَ جانب الحياء منها يقصيك.
هي التي شُحذتْ جمالا من أقاصيها إلى أدانيها، فجر ذيوله متبخترا في مغانيها، و غدا من أسمى معانيها،فقد جمع الغرناطي و الطليطلي و الجياني و الإشبيلي و القرطبي مورد واحد، منه سقوا العذب الزلال، هو مورد الحسن و الجمال، فقد أجمع شعراؤها إجماعا لا ينقضه خلاف، على أن الجمال هو الذي يستجيش لواعجَهم، و يسثتير خوالجَهم، فهو السر في بدائعِهم، و مذكي قرائحَهم، فهم في أرض الجمال نشأوا، و بين أحضانه ترعرعوا، و على وهاده وطئوا، فكلفوا به كلفا، و ازدادوا به شغفا، فمن أصغر صورة، و هي الوردة العطرة النضِرة، إلى أكبرها، وهي الجبال الشامخة الباذخة، يبصرون الجمال متمثلا يدِبُّ على أديم الأرض، فيهز القلب و يدغدغ شغافه، فتسري خمرته إلى مكمن الأفكار، فيصدر عن سني و بهي الأشعار، و لعلي أدعم ما سطرته، و في هذا القرطاس نمنمته، بأمثلة تجلي بوضائتها الغِيم، و بسناها حلكة الظُّلم، فمن ذلك ما قاله ابن أبي رُكَب الجياني في محبرة:
وافتك من عُدد العلا زِنجية *****في حُلة من حِلية تتبخترُ
سوداء صفراء الحُلي كأنها ***** ليل تطرِّزُه نجومٌ تزهر [1]
و كذا ما أنشده أبو الحسن الوقَّشي، و هو على شطِّ وادٍ:
شربنا على وادي القُصيِّر عشية ***** و قد ركضت فيه الجياد النواسم
على نرجس مثل الدنانير بُدِّدت ***** على بُسُط خز و البهار دراهم
و قد ضحكت للأقحوان مباسم ***** تقبلها من حسنهن المباسمُ
و رقَّ رداء للأصيل مدبَّج ******* فأنَّق فيه من يد الشمس راقم [2]
و قد قال الحافظ الأديب ابن الأبَّار البلنسي في روضٍ:
حديقة ياسمين لا ***** تهيم بغيرها الحُدقُ
إذا جفن الغمام بكى ***** تبسم ثغرها اليَقَقُ [3]
كأطراف الأهلة سا ***** ل في أثنائها الشفق [4]
فهذه الأبيات تبين لنا، أن كل صورة تناسقت ملامحها، و انتظمت محاسنها، فتجلت عن حسن و نَضارة، إلا و للشاعر الأندلسي معها وقفة، علَّهُ يفصح عن ذاك الجمال في أبيات متناغمة متآلفة، تنساب إلى القلب بلطافة و وداعة، و إرهاف و انسياب، حريرية في رقتها و نعومتها،تنم عن رغد عيش و سَعَة، و بسط رزق و دَعَة.
نعم أخي .. ، إنها أشعار تدل على مدى الرقي و الغنى الذي بلغ إليه المجتمع الأندلسي، و تفصح عن جمال الروح الأندلسية، و كلفها بروح الجمال، حتى أضحت -و بحق- حضارة الجمال، التي أنارت تاريخ الأمة الإسلامية رِدحا من الزمن، و لكن فقدناها، و لم يبق سوى التعلل بالذكريات و المآثر، و أخبار و أحداث حوتْها الدفاتر، و الأسيرة لابد أن يفك إسارها، و إن طال الزمان.
كتبه: نورالدين بن محمد الحميدي الإدريسي