واعلمْ وُقِيْتَ الجهلَ أنك في قَصْرٍ تَلِيْهِ مَطارِحُ السَّمَكِ
وبَناتُ دِجْلَةَ في فِنائِكُمُ مَأْسُوْرَةٌ في كلِّ مُعْتَرَكِ
بيْضٌ كأمثالِ السَّبائِكِ بلْ مَشْحُونَةٌ بالشَّحْمِ كالعُكَك
تُغْنِي عن الزَّيَّات قالِيَها وتُبَخِّرُ الشاوِيْنَ بالوَدَك
والهازِباءُ هَدِيَّةٌ ذهبتْ مذ جاوزتْ أسْكُفَّةَ الحَنَكِ
وافَى فألْفَيْناهُ في مِعَدٍ لم نُلْقِهِ للنَّسْلِ في بِرَك ([31])
فما يطلبه من ممدوحه هو أكلة سمك من نهر دجلة المجاور لقصره، ثم يصف ذلك السمك وهو في النهر قد طُبِّقَ شحماً يغني عن الزيت، وتفوح منه رائحة الدسم إذا قلي، لكن هذه الأكلة الهدية قد ذهبت إلى المعدة بعد المضغ، وهذا خير من أن تظل الأسماك في النهر لتتكاثر وتتناسل.
وهذا المزج بين الطعام والمرأة نقله أيضاً إلى أركان الصورة نفسها، فاستعان به ركناً من أركان التشبيه؛ فالأطعمة والأشربة عناصر مهمة من عناصر الصورة الشعرية عنده، ويكفي للتدليل على ذلك أن نتذكر ما قاله في قصيدته المشهورة في المديح التي مطلعها:
أَجْنَتْ لك الوَجْدَ أغصانٌ وكُثْبانُ فيهنّ نوعانِ تفاحٌ ورمان
وفوقَ ذَيْنِكَ أعْنابٌ مُهَدَّلَةٌ سُوْدٌ لهنَ مِنَ الظَلْماءِ أَلْوان
وتحت هاتِيْكَ أعنابٌ تَلُوْحُ به أَطْرافُهُنَّ قُلوبُ القومِ قِنْوان ([32])
فهو يركّب صوراً جميلة من الطبيعة والثمار الطيبة؛ فقامة المرأة غصن، وردفاها ضخمان يرتّجان ككثيب الرمل الناعم، وخداها لونهما أحمر كالتفاح، ونهداها بارزان مستديران كالرمان، وشعرها أسود مرسل فاحم كالعنب الأسود، وأطراف أصابعها محمرة كأنها عنب أحمر، أو (عنّاب) كما في رواية أخرى، لذا كان لابد لامرأة بهذه الأوصاف أن تجني ثمار الوجد لعاشقيها، أو أن تتجنى عليهم وتمزق قلوبهم، لأن لكلمة (جَنَى) معنيين؛ أحدهما من الجَنْيِ يكون للثمار، والآخر من الجِنايَةِ بمعنى الذنب والجُرْم. والمعنيات جائزان في البيت السابق.
وإمعان ابن الرومي في الطعام ونهمه الشديد فيه من أهم أسباب إطالته في المعاني أو في القصائد، وكأنه لا يريد أن يترك المعنى حتى يشبع منه، ولا يبقي منه إلا الفضلات التي لا تنفع أحداً. وقد دفعه ضعفه الجنسي إلى التعويض أيضاً بعدة طرق؛ منها وصف بعض المغامرات مع النساء، وأنه محبوب مرغوب فيه على طريقة عمر بن أبي ربيعة في الغزل المعكوس، بل إن النساء يتهالكن عليه وهو يرفضهنّ ولاسيما إذا كن مغنيات، ومنها الهجاء الفاحش الذي يذكر فيه السوءات ويسمي الأشياء بمسمياتها ([33])، كما دفعه هذا الضعف إلى تَشَهِّي المرأة، وتخيلها في كل شيء كالطبيعة والطعام، لكن الحقيقة بعد كل ذلك أن المرأة كانت تنفر منه لقبحه ولشيبه، وربما لضعفه الجنسي، مما زاده كرهاً لها، وإمعاناً في هجائها ونفي كل فضل عنها.
فهو يصور نفسه محبوباً من النساء اللواتي يخطبن وده ويتهالكن على وصاله، وهو يتأبى عليهن ويتمنع، وله قصيدة كتلك القصائد التي نظمها عمر بن أبي ربيعة في وصف النساء اللواتي يسعين خلفه، فحاول ابن الرومي أن يقلده، ونجح في ذلك إلى أبعد حدود النجاح، حتى ليخيل إلى القارئ أن القصيدة لعمر وليست لابن الرومي: ([34])
كتبتْ رَبَّةُ الثنايا العِذابِ تَتَشَكَّى إليَّ طُوْلَ اجْتِنابي
وإذا قرأنا القصيدة بتمامها رأينا كيف يخدعنا ابن الرومي بادعائه الجديد هذا، فهو يزعم أن صاحبته أرسلت إليه خطاباً تدعوه إليها، وتشتكي له من طول غيابه عنها، وتصف حبها الذي أضنى فؤادها، فاستجاب لخطابها ورحل إليها مقتحماً المخاطر، ومتجاوزاً الحراس في الليل بعد أن هجعوا من التعب، فاستقبلته صاحبته مع أترابها وهنّ كاشفات عن وجوههن وقد أمضين الليل ساهرات ينتظرن قدومه، وتسلَّلْنَ إليه خوفاً من الحراس والبواب، ورُحْنَ يتحدثنَ عنه أحاديث تَشِفُّ عن عشقهن له وعدم قدرتهن على الصبر على فراقه، وهن يتمنْينَ أن يَرِقَّ لأحوالهن، ثم جلس إلى صاحبته فراحت تعاتبه على هجره لها، فأعلمها أنه ما هجرها طائعاً ولا سالياً عنها بالخمر والطرب، بل لأنه كان مثلها يشكو من نار الهوى التي كَوَتْهُ فلم يستطع أن ينام ليله، وكأن فراشه حشي بالحجارة الحادة الناتئة. وبعد هذا العتاب تصالحا وتواعدا على اللقاء من جديد.
¥