إنها حكاية جميلة بلا شك، لكن ابن الرومي مُدَّعٍ في كل كلمة قالها، فهو لم يكتف بالقول إن صاحبته تشتاق إليه، وأنها متيمة به، بل زعم أن صويحباتها متيمات به أيضاً، ثم صور ما لحق بصاحبته من عذاب بسبب هجرانه، حتى راحت تتمنى هي وصويحباتها أن يرق لها. لكنه ختم القصيدة بخاتمة لا تناسب ادعاءاته فيها، فقد أشار إلى أنه متيم بصاحبته كما هي متيمة به، حتى إنه قَلِقٌ يتقلب على فراشه ولا يستطيع أن ينام لشدة حبه لها واشتياقه إليها. وكان من المفترض ـ بعد كل تلك المقدمات التي ساقها ليؤكد محبة المرأة له وسعيها خلفه وهجرانه لها ـ أن يخفي مشاعره نحو صاحبته ويتلذذ بعذابها وسعيها خلفه، أو يظهر عدم اهتمامه بحالها وقلة مبالاته لما أصابها.
ويزعم في مواضع أخرى كثيرة مزاعم كهذا الزعم، لكنه يضيف إليه مزاعم جديدة تؤكد فحولته وقوته الجنسية ([35]).
ونستطيع أن نعلل ـ بعد هذا الفهم لحقيقة علاقته بالنساء ـ أسباب سوء ظنه بالمرأة، والمبالغة في هجاء النساء ولاسيما المغنيات، لأن المرأة نفرت منه لقبحه ولشيبه، أو لعنانته، أو لأمراضه وعلله، أو لكل هذه الأسباب معاً، فكان رد ابن الرومي عليها أنْ سلب منها كل فضيلة، وصورها فاجرة، أو على أقل تقدير خائنة لا تعرف الوفاء بالعهود. وهذا الكلام ينطبق على كل النساء في زعمه كما يقول:
ولا يَدُمْنَ على عَهْدٍ لِمُعْتَقِدٍ أنّى وهُنّ كما شُبِّهْنَ بُسْتانُ
يَمِيْلُ طَوْراً بِحِمْلٍ ثم يُعْدَمُهُ ويَكْتَسي ثم يُلْفَى وهْو عُرْيان
حالاً فَحالاً كذا النَّسْوانُ قاطِبَةً نَوَاكِثٌ. دِيْنُهُنَّ الدَّهرَ أدْيان
يَغْدُرْنَ والغَدْرُ مَقْبُوحُ يُزِّيُنهُ للغاوِياتِ وللغافِيْنَ شَيْطان
تَغْدو الفتاةُ لها حِلٌّ فإنْ غَدَرَتْ راحتْ يُنافِسُ فيها الحِلَّ خِلان
فإنْ تُبِعْنَ بَعَهْدٍ قُلْنَ مَعْذِرةً إنا نَسِيْنا وفي النّسْوان نِسْيان
يكفي مُطالِبَنا للذّكْرِ ناهِيَةً الغالِبَ المشهورَ نِسْوان
فَضْلُ الرجالِ علينا أنَ شِيْمَتَهم جُوْدٌ وبَأْسٌ وأحْلامٌ وأَذْهان
وأنَّ فيهم وَفاءٌ لا نَقومُ به ولن يكونَ مع النُّقْصانِ رُجْحان ([36])
أستاذ مساعد في كلية الآداب بجامعة حلب ـ سورية.
([1]) انظر ديوان ابن الرومي: 1/ 232، 331، 298, 341، 374، 2/ 637، 668، 789، 3/ 954، 968، 5/ 1957.
([2]) انظر تاريخ الطبري: 9/ 660 ـ 663.
([3]) ديوان ابن الرومي: 6/ 2377. السجام: التي تسيل. الهنات: الأشياء.
([4]) نفس المصدر السابق.
([5]) ديوان ابن الرومي: 3/ 81283.
([6]) ابن الرومي حياته من شعره: 88 ـ 89ز
([7]) ديوان ابن الرومي: 1/ 71.
([8]) المصدر السابق: 6/ 241.
([9]) ديوان ابن الرومي: 1/ 231 ـ 232. يعاف: يترك. اللجج: جمع لُجَّة: معظم البحر وتردد أمواجه. النطف: جمع نُطْفة: الماء الصافي أو القطرة منه.
([10]) ديوان ابن الرومي: 4/ 1380. المستكنات: المختبئات. الوتر: الثأر.
([11]) ديوان ابن الرومي: 1/ 257. صَدى: عطش. الثنايا: الأسنان. الرضاب: الريق. شُحٍّ: بخل. الغانيات: النساء الجميلات. ابن شبيبة: الشاب. جَوْن: أسود. وجون الغراب: كناية عن الشباب لأن الغرابُ أسود اللون وكذلك الشعر أيام الشباب. صَرَّدْنَ: سقينني جرعات متفرقة أو قَلَّلْنَ في السقاية. خِلاب: مخادعة وافتتان قلب. عَتْبي: معاتبتي.
([12]) ديوان ابن الرومي: 1*67. التَّواء: الهلاك. مُسْتَحِير: آخذ من الحسب كلَّ مأخذ. اللَّمَّة: شعر الرأس المجاور شحمة الأذن. سَحْماء: سوداء. رَثّة: هيئة قبيحة. شمطاء: عجوز شعرها مختلط سواده ببياض.
([13]) المصدر نفسه: 1/ 111. المُسْتَقَى: السقاية، يريد الفهم. الورود: القدوم على الماء للشرب. الرَّشاء: حبل الدَّلْو.
([14]) ديوان ابن الرومي: 1/ 66 ـ 67. تلوي: تصرع وتهزم. الصناديد: الشجعان الشرفاء. الرخاخ: جمع رُخَّ: حجرة من حجارة الشطرنج. الفرازين: جمع فِرْزان: الوزير. الشاه: الملك. القِتْلة: النظراء في القتال وغيره، يريد خصومه من اللاعبين. الدست: رقعة الشطرنج. الرسلاء: الناس الذين يلعبون معه.
([15]) انظر ما جمعه العقاد من الأعجمي في كتابه: ابن الرومي حياته من شعره: 94.
([16]) ديوان ابن الرومي: 2/ 667.
([17]) المصدر نفسه: 1/ 56 ـ 57.
¥