تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لكن موقف ابن الرومي من المرأة يتحول إلى نقيضه إذا كانت المرأة إحدى اثنتين، أماً أو محبوبة؛ فأما الأم فرمزٌ للطهر والعفة والفضيلة، صوامةٌ نهارها قوامةٌ ليلها، حاضنةٌ مرضعةٌ حنون ([1])، وأما المرأة فطاهرة إن أحبها وبادلته حبه بحب، فعندئذ يخلع عليها كل صفات العفة والطهر ونقاء السريرة، ويصورها وفية بعهودها، كقصيدة رثاء المغنية (بستان) وكان يحبها، ويبدو من كلامه أنها كانت تحبه، أو لم تكن تصده على أقل تقدير: ([2])

2 ـ نفسه:

انعكست نفس ابن الرومي في شعره تمام الانعكاس، وأثرت فيه تأثيراً واضحاً، حتى ليصِحّ أن نقول: إننا لا نستطيع فهم شعره ما لم نفهم نفسه حق الفهم. وانعكاسُ نفسه في شعره أخذ عدداً من الأشكال أو المظاهر؛ منها ما كان تعبيراً صادقاً عن تلك النفس في مختلف أحوالها، ومنها ما كان تعويضاً عن هزائم وانتكاسات نفسية أخذت شكل ادعاءات مختلفة، كتلك الادعاءات التي رأينا بعضاً منها عندما تكلمنا عن بيئته وعصره وجسمه.

وابن الرومي لا يلتزم خطاً واحداً أو نهجاً واحداً في وصف أحواله أو في التعبير عنها، لأن أحواله نفسها لم تكن تسير على نهج واحد، فقد كانت مضطربة أشد الاضطراب، تَمْتَحُ من مَعين نفسه المضطربة ومن جسمه المضطرب ومن عصره المضطرب، فحياته كلها اضطراب في اضطراب، لذا انعكس هذا الاضطراب في شعره من خلال تناوله لما يشعر به. إن نفسه أشبه ما تكون ببيت اليَرْبُوع الذي يحفر فيه خطوطاً في مختلف الاتجاهات ليحمي نفسه من المتطفلين والأعداء، ونَفْسُ ابن الرومي كانت كبيت اليربوع، بل إن ابن الرومي أمعن في الاحتراز والتخّفي من الآخرين فزاد في حفر تلك المداخل والمخارج، وتفنن في ذلك حتى أوقعنا في كثير من الأحيان في متاهات نفسه، فاختلطت علينا مداخلها ومخارجها، حتى لم يجرؤ أحد منا ـ نحن دارسي شعره ـ على تأكيد حُكِم، أو توثيق حالة شعورية مرت بالشاعر، من غير أن يقدم بين يديه أكثر من افتراض، متعللاً بعبارات الترجيح من مثل قوله: أظنُّ، ويخيَّل إلي، وعلى الأرجح، وأَغْلَبُ الظن، ولعل، ويَلُوْحُ لي ...

وتزداد حيرة الباحث كلما توغل في نفس ابن الرومي، لأن الأخبار التي وصلت إلينا عنه شحيحة جداً، ينقلها اللاحق عن السابق بكثير من التكرار والتَزيُّد وعدم التدقيق، فلا نجد أمامنا إلا أن نضرب شعره بعضه ببعض، ونقيس شيئاً على شيء، نَحْزِرُ حيناً ونُخَمِّن أحياناً أخرى، وقد نجزم أحياناً قليلة، من غير أن نصل إلى قناعة أكيدة بالأحكام التي أطلقناها عليه.

وتعترضنا صعوبة أخرى ـ سبق أن أشرنا إليها من قبل ـ تتعلق بطبيعة المؤثرات التي أثرت في ابن الرومي، في جسده ونفسه، وفي طبيعة المظاهر التي تجلت فيها، فتَقَصِّي المعاني مثلاً مظهرٌ جَلِيٌّ في شعره لكن أسبابه أو المؤثرات فيه متعددة، كثقافتِه الواسعة ونهمِه الشديد إلى الملذات نهماً انتقل إلى المعاني، وإحساسِه بتميزه من أقرانه من الشعراء، مما يدفعه إلى تقصي المعاني وإطالة القصائد ليثبت لهم أنه متميز حقاً، وأن ما به من عيوب جسدية ونفسية لم يمنعه من التفوق ... كما أن تطيره أدى به إلى التحديق الدائم في الأشياء، وتقليبها على مختلف وجوهها، واستخراج دفائن المعاني منها، مما سبب في إطالة القصائد وتقصي معانيها. لكنني سأحاول تتبع تلك المؤثرات التي أثرت في نفسه لأصل إلى مظاهرها التي تجلت فيها في شعره.

كان ابن الرومي مرهف الحس، يهتاج لأدنى سبب مما قد لا يهتاج له الآخرون من الأسوياء، فقد كان يكبّر الأشياء ويضخمها لينفّر الناس منها، لأنه هو ينفر منها لقبحها في ذاته أو لقبحها في نظره، كما تجلت رهافة حسه أيضاً في ضيق صدره وسرعة غضبه وتبرمه بالناس وعدم القدرة على تحملهم، حيث كان ابن الرومي يشتكي من الناس باستمرار ويهجوهم أشد الهجاء، من ذل قوله يرد على رجل عيَّره بلبس العمامة في كل أوقات السنة على سبيل التحرش والاستهزاء به، فغضب ابن الرومي منه أشد الغضب وانتفض منزعجاً يهجوه أشد الهجاء، مؤكداً أنه أصلع لكنه صاحب فضل وعفة، ولا يخلف وعوده:

يُعَيِّرُني لُبْسَ العمامةِ سادِراً ويَزْعُمُ لُبْسِيْها لِعَيْبٍ مُكَتَّمِ

فقولا له: هَبْنِيْ كما أنا صَلْعَةٌ أَلَستُ حَصِيْنَ الخَلْفِ عَفَّ المُقَدَّم ([3])

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير