أضف إلى ذلك أن ابن إسحاق الذي انفرد برواية هذا البيت قد تعرض بسبب هذه الأشعار التي حشدها في سيرته إلى نقد شديد واتهامات جارحة، وممن وجه إليه هذا النقد ابن سلاَّم؛ حيث قال: «وكان ممن أفسد الشعر وهجَّنه، وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق ... وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك ـ فقَبِلَ الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أُتينا به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذراً، فكتب في السِّيَر أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط، وأشعار النساء فضلاً عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعاراً كثيرة، وليس بشعر، أفلا يرجع إلى نفسه، فيقول: مَنْ حَمَلَ هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف من السنين» (1).
وتبعه ابن النديم فقال: «كان يُعمَل له الأشعار، ويُؤتى بها ويُسأل أن يدخلها في كتابه في السيرة فيفعل، فضمَّن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر» (2).
كما طعن فيه الذهبي بسبب إيراده هذه الأشعار المكذوبة أيضاً، فقال بعد أن ساق قول ابن سلام الآنف الذكر: «لا ريب أن في السيرة شعراً كثيراً من هذا الضرب» (3).
وقريب من هذا قول ياقوت في معجمه: «محمد بن إسحاق كانت تُعمَل له الأشعار فيضعها في كتب المغازي، فصار بها فضيحة عند رواة الأخبار والأشعار» (4).
وبما أن حال ابن إسحاق في الشعر مطعون فيه إلى هذا الحد، فلا يصح إذاً قبول هذا البيت منه، خصوصاً أنه انفرد بروايته، ولم يُرْوَ عن غيره ممن ساق القصيدة بسندها.
ومما يستأنس به في سبيل رد هذا البيت، ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، من أنه قد نفى (هيتاً) المخنث عن المدينة إلى الحِمَى لَمَّا سمعه يصف (بادية بنة غيلان) بقوله: «إنها تُقْبِل بأربع وتُدْبِر بثمان» (5).
وما نسب إلى كعب في هذا البيت لا يخرج في معناه عما قاله (هيت) المخنث في هذه العبارة الثابتة في صحيح البخاري.
فهل يصح القول بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم - يجيز الفحش إذا كان منظوماً، ويرفضه منثوراً؟! حاشاه ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
وبناءً على ما سبق، لا يصح القبول بأن هذا البيت قد أُنشد بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم -، فأقر عليه صاحبه، ولم ينكر عليه.
ثالثاً: موقف النقاد (الإشكالية والحل):
عند النظر في آراء النقاد المتعلقة بهذه المقدمة الغزلية نجد أننا أمام فريقين:
الفريق الأول: احتفل بهذه المقدمة وما جاء فيها، وحاول تحميلها ما لا تحتمل من التأويلات، ليبيح شعر الغزل على إطلاقه.
أما الفريق الآخر: فذهب إلى رفضها، منكراً ومستبعداً سماع الرسول -صلى الله عليه وسلم - لها، لما فيها من أوصاف حسية، ومخالفات شرعية.
ويبدو لي أن أسباب الاختلاف حول قبول ورفض هذه المقدمة، تعود إلى ما فيها من إشكاليات ثلاث:
1 - فالإشكالية الأولى تكمن في البيت المنسوب لكعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ الآنف الذكر، وقد اتضح بطلانه وسقوط الاستشهاد به، وبذلك زالت الإشكالية الأولى.
2 - وتتجسد الإشكالية الثانية في التصوير الحسي للمرأة في قصيدة كعب؛ غير أنه عند تأمُّل المعاني التي اشتملت عليها أبيات المقدمة الغزلية نجد أنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أبيات ذات أوصاف ومعان معنوية، وهي السمة الغالبة على أبيات المقدمة الغزلية، وتتجسد هذه الأوصاف في:
البيت الأول: حيث ذكر الشاعر شدة حبه لسعاد، وأثر فراقها على قلبه.
الأبيات من السادس إلى الثاني عشر: حيث ركز فيها الشاعر حديثه على خُلُق محبوبته، وما اتصفت به من خيانة للعهود، وعدم وفاء بالوعود، وتلوُّن ودِّها، وكثرة مواعيدها الباطلة، وإخلافها لذلك أبد الدهر.
البيت الثالث عشر: حيث تناول فيه الشاعر حقيقة بُعد محبوبته عنه، ليتخلص في هذا البيت من المقدمة الغزلية إلى وصف الناقة.
أما القسم الآخر من المعاني التي اشتملت عليها المقدمة الغزلية، فهي معان ذات أوصاف حسية، وهي أقل من سابقتها بمراحل، وتتمثل هذه الأوصاف في:
البيت الثاني: حيث شبه صوت معشوقته وعينيها المكحولتين بصوت ظبي أغن ذي طرف فاتر.
الأبيات من الثالث إلى الخامس: حيث وصف أسنانها وجمال ابتسامتها، ثم شبه رضابها وطعم ريقها بخمرة ممزوجة بماء بارد صاف.
¥