ومن هذا التقسيم يتضح طغيان الأبيات ذات الأوصاف المعنوية على الأبيات ذات الأوصاف الحسية؛ فقد استغرقت الأوصاف المعنوية تسعة أبيات من أصل ثلاثة عشر بيتاً هي مجموع أبيات المقدمة الغزلية، بينما جاءت الأوصاف الحسية في أربعة أبيات فقط.
وبناء على هذا، أستغرب من تعميم بعض النقاد، حين يحاكم هذه المقدمة الغزلية على أساس أنها في مستوى واحد من حيث الأوصاف الحسية الواردة فيها، فيحكم (بحسية) هذه المقدمة الغزلية، دون تفريق بين ما جاء فيها من أوصاف معنوية، وأخرى حسية.
وعلى كل، اتضح من خلال ما سبق عرضه أن طابع العفة هو الغالب على أبيات المقدمة الغزلية، كما أن ما جاء فيها من أوصاف حسية لا تعدو كونها أوصافاً تقليدية أكل عليها الدهر وشرب، وملها الشعراء والقراء من كثرة تكرارها؛ فهي لا تستثير فيهم نزوة، ولا تحرك فيهم شهوة.
ولذا، قَبِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ما جاء في هذه الأبيات الغزلية، وبهذا تزول الإشكالية الثانية.
3 - أما الإشكالية الثالثة فتظهر فيما جاء في هذه القصيدة من وصف للخمرة ومدح لها على مسمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم -.
وتفسير ذلك هو: أن كعباً قد يكون قال ذلك على الظن ومن باب الاستعارة والتشبيه؛ ليدلل ويبالغ في وصف جمال وحلاوة معشوقته، وكل عاشق يظن ويتوقع أن ريق محبوبته طيب المذاق، خصوصاً أن الخمرة كانت من الأشربة المحببة إلى نفوسهم ولم يُقطَع بتحريمها إلا متأخراً، وقد روعي ذلك في طريقة تحريمها؛ حيث حرمت بالتدريج وكان ذلك على ثلاث مراحل، حيث قال ـ تعالى ـ بداية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219].
وفي المرحلة الثانية نزل قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43].
ثم نزل النهي عنها قطعياً في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
ولا يخفى أن هذه الآية الأخيرة وردت في سورة المائدة، وهي آخر سورة أنزلت، مع سورة الفتح، ويدل هذا على شغف العرب بها وصعوبة انفكاكهم عن شربها ومحبتها، ومن هنا لم يكن مستغرباً ذكر كعب ـ رضي الله عنه ـ لها، خصوصاً أن ذكره لها ليس فيه مدح للخمرة بقدر ما فيه مدح لريق معشوقته الخيالية، وأن طعم رضابها يفعل بالهائم بحبها فعل الخمرة بشاربها. ولذا كان تشبيهه ريق محبوبته بالخمرة لا حرج فيه.
ونظير ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن من البيان لسحراً» (1).
فقد شبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - البيان بالسحر، حيث يستميل الإنسانُ الذَّرِبُ البليغُ الفصيحُ اللسان بحلاوة كلامه، وروعة أسلوبه، وخلابة معانيه المستمعَ إليه، فيفعل ذلك بالنفوس فعل سحر الساحر الذي يستميل القلوب إليه بشعوذته وسحره.
فرسول الله -صلى الله عليه وسلم - ـ قطعاً ـ في حديثه هذا لا يبيح السحر ولا يحله، كما أن كعباً ـ رضي الله عنه ـ في قصيدته لا يستبيح الخمرة ولا يدعو إليها.
وختاماً: فإن ما يمكن القطع به هو أن هذه المقدمة الغزلية عفيفة لا فحش فيها، أما ما جاء فيها من أوصاف حسية؛ فهي قليلة جداً، كما أنها لا جدة فيها ولا ابتكار، بل إنها لا تعدو أن تكون تكراراً لمعان أُنهكَت في سُنَّة التشبيه ومطالع الغزل.
والدليل على عفة هذه المقدمة الغزلية، سماع الرسول -صلى الله عليه وسلم - لها دون تنبيه على شيء محظور فيها؛ فلو كان فيها ما يجافي الخلق الكريم، والذوق السليم لأبانه عليه الصلاة والسلام، ولو حصل ذلك لنُقِلَ إلينا، كما هو شأن سائر الأحكام.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.
ـ[أبو طارق]ــــــــ[17 - 06 - 2006, 10:06 م]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك أخي الشمالي. ولو أنك جزأت مشاركتك لكان أفضل.
بارك الله فيك أخي وجزاك الله خيراً
ـ[أحمد الغنام]ــــــــ[17 - 06 - 2006, 10:21 م]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أخي الكريم أبو طارق،
¥