تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هي كيمياء المديح المُر .. شِعرٌ في كأسٍ قاتم يقدمه المتنبي بجرأة ٍ واثقة , ويتجرعه كافور بقهر ٍ صامت , ويحتسيه بإحساس ٍ بارد. دون أن يوحي بأي اعتراض , أو يبدي أدنى امتعاض ..

فإن ْ يك ُ إنسانا مضى لسبيله ** فإن المنايا غاية الحيوان ِ

لم يرد شبيب الخلود .. فمصير كل حي إلى الموت ..

أهو عزاء؟ ... أهو تعاطف؟؟ .. أهي حكمة مجردة؟ ..

قد يكون أي َّ قصد .. إلا الهجاء لشبيب!!

وما كان إلا النار في كل موضع ٍ**

يثير غبارا في مكان في مكان دخان ِ

فنال حياة ً يشتهيها عدوه **

وموتا يشهِّي الموت كل َّ جبان ِ!!

أثار فتنةً أعقبت حربا .. وقد عاش عزيزا .. ومات: .... بلا ألم!!! موت يشتهيه الجبان!

بخل المتنبي على كافور حتى أن يستمتع بألم عدوه ..

نفى وقع أطراف الرماح ِ برمحه **

ولم يخش َ وقع النجم والدبران

ولم يدر ِ أن الموت َ فوق وشاته **

معارُ جناح ٍ .. محسن ِ الطيران ِ

للإنصاف ما رأيت ُ الرحى الطائر أجمل منه هنا .. !!

وهذه صورة تلتقطها عدسته فنتخيل: مقاتلا شجاعا يدافع بشراسة ما خاف أبدا في أرض المعركة .. لكنه غفل عما جاء من سمائها حيث جاءته من الأعلى من الرحى الطائر ..

كل هذا وليس لك يا كافور حيلة ..

وقد قتل الأقران َ حتى قتلته **

بأضعف قِرْن ٍ في أذل ِّ مكان ِ

وهنا فاض به الكيل ولم يعد يطيق التمثيل بعدم الفهم:

فانتفض قائلا: لا والله , بأشذ قرن ٍ في أعز مكان ِ

وقيل رواه الناس كما قاله كافور .. وهيهات أن يرويه سياق المتنبي هذا!

أتته المنايا في طرقٍ خفية **

على كل سمع ٍ حوله وعيان ِ

ولوسلكت طرق السلاح لردها **

بطول ِ يمين ٍ واتساع ِ جنان ِ

تقصده المقدار ُ بين صحابه **

على ثقة ٍ من دهره ِ وأمان ِ

منحنىً حاد جديد ....

وحتى اللحظة لم ينتج لي في تفاعل هذا البيت ما يثبت أنه هجاء لشبيب كما حاول أن يُفْهِم الناس , وكما أراد أن يَفْهَم َ كافور ..

ولوسلكت طرق السلاح لردها **

بطول ِ يمين ٍ واتساع ِ جنان

هجاء داهية ومدح داهية .. غطته فلسفة المواقف الصعبة ,و غلَّفتْه سياسة أنصاف الحلول ..

لا يرضى المتنبي الجبن , ولا يقوى الصمت ..

فكانت حربه الباردة شبه ُحلٍ .. لشبهِ مدح ٍ .. لشبه هجاءٍ ..

وهل ينفع الجيش الكثير التفافه **

على غير منصور ٍ وغير مُعان ِ!

هل تشعرون أنه أدار بصره باتجاه أحد ٍ ما!!

أو نظرا شزرا واحتقارا وسخرية نحواً ما ..

سينحني يمينا ليمتص َّ الغضب المتصاعد باتجاه الداخل في نفس كافور:

أتمسك ما أوليته يد ُ عاقل ٍ** وتمسك في كفرانها بعنان ِ

ويركب ما أركبته من كرامة ٍ** ويركب للعصيان ظهر حصان ِ

ثنى يده الإحسان حتى كأنها ** وقد قُبِضَت بغير بنان ِ

**

وعند من اليوم الوفاءُ لصاحبٍ **

شبيب ُ وأوفى من ترى أخوان ِ

هذا بيت ُ القصيد ...

"على طريقة الشيخ الجليل "ابن هشام "

عند من اليوم الوفاء؟؟

الرجل قاس ٍ معذورٌ معا .. اعتاد على الفتوحات .. على المعارك .. على مثل "قلعة الحدث "

وفجع بكافور يفرح بالسلامة واكتفاء مؤونة القتال على يد امرأةٍ ,وغدرا!! ..

نثرت هذه الحادثة الملح على جراحٍ لم تلتئم ..

أمضَّت مدمعه .. و أقضَّت ْ مضجعه ..

لقد أطلق قصائده المريرة في مصر مدوية ً .. ملتاعة .. باحثا عن المعالي كما يقول إذا بحث غيره عن المعاش .. أطلقها هجاء أو مدحا أو غزلا أو فخرا أو حتى في وصف الحمى .. كلها كانت تغلي مراجلها في صدره على لهيب السؤال:

عند من اليوم الوفاء؟ ....

قضى الله يا كافور أنك أول ٌ **

وليس بقاض أن يُرى لك ثان ِ

على ضوء الواحدي: هوأجود ما مدح به ملك ..

تذكرت ُ قول ابن جني في إحدى مدائحه المرة: ما أحسنه لولا أنه في كافور ..

فقال المتنبي: أحذرناه وأنذرناه .. يقصد سيف الدولة .. وقلنا له:

أ ذا الجود .. أعط الناس ما أنت مالك**

ولا تعطيَن َّ الناس ما أنا قائل ُ ..

وسينحني يسارا مرة أخرى:

فما لك تختار القسي َّ وإنما **

عن السعد يرمي دونك الثقلان ِ

وما لك تُعنى بالأسنة والقنا **

وجدك طعَّان ٌ بغير طعان ِ

ولِم ْ تحمل السيف الطويل نجاده **

وأنت غني عنه بالحدثان ِ

-في رأيي – هذا أهجى ما في النص ..

لأنه على غرار أقذع بيت هجاء قالته العرب للحطيئة:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي!!

يا لصبرِكَ يا كافور .. أتراها كانت رماحا تخترق سمعك وفؤادك!

جعله بلا هم ولا رأي ولا رؤية ..

توارت الفلسفة .. فازدادت التجربة ُ مرارةً ..

امتلأ القلب حنقا وضِيقا .. فاشتعل المدح ذما وحريقا ..

حين (أحب): انظر كيف وصف الهم عند صاحبه سيف الدولة:

يكلف سيف الدولة الجيش همه ** وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم ُ

ويطلب عند الناس ما عند نفسه **وذلك ما لا تدعيه الضراغم ُ

وحين (أبغض): تأمل كيف طلب منه ألا يحمل هما ..

ونحن كلنا المتنبي في هذه ..

حين نجِلُّ ونقدِّر .. نشعر أن الآخر يحمل هما كبيرا وددنا لو شاركناه إياه ..

في ذات اللحظة التي نزدري ونُحقِّر .. يبدو أمامنا فارغا .. خاويا .. بلا دور .. ولا هدف ....

.. قصيدة ٌ خطرة .. متعرجة .. تحتاج هدوءا أثناء السير لنصل المراد ..

وأبيات هذه القصيدة رسائل مشفرة .. فحواها ما أبعد صباحه في حلب .. عن مسائه في مصر!

فلم يكن له بد من قول الشعر ..

مُذعنا ً للتلميح .. مُمعِنا في التجريح ..

أثابك الله يا كافور ..

وتجاوز عنا وعنك -أبا الطيب – إنه حسن التجاوز ..

والحمدلله رب العالمين

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير