تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[وقفات على مرثية أبي ذؤيب الهذلي]

ـ[قطرالندى]ــــــــ[28 - 04 - 2007, 11:48 م]ـ

كم أحببت قصائد الهذليين وخاصة بعد قراءتي للقصيدة التي وضعها الشاعر رؤبة بن العجاج للشاعر الهذلي أبو صخر التي لم أنه تحليلها بعد ( ops

وذلك لانشغالي في تحليل هذه القصيدة الجميلة التي خلدها لنا التاريخ:

هذه مرثية لأبي ذؤيب الهذلي التي كتبها بعد وفاة أبنائه (السبعة، أو الخمسة) في يوم واحد.

وإليكم بعض أبياتها:

أمن المنون وريبها تتوجع = والدهر ليس بمعتب من يجزع

قالت أميمة مالجسمك شاحبا = منذ ابتذلت، ومثل مالك ينفع

أم ما لجنبك لا يلائم مضجعا = إلا أقض عليك ذاك المضجع

أودى بني، فأعقبوني حسرة = بعد الرقاد، وعبرة ماتقلع

سبقوا هواي، وأعنقوا لهواهم = فتخرموا ولكل جنب مصرع

فغبرت بعدهم بعيش ناصب = وإخال أني لاحق مستتبع

ولقد حرصت بأن أدافع عنهم = فإذا المنية أقبلت لا تدفع

وإذا المنية أنشبت أظفارها = ألفيت كل تميمة لا تنفع

فالعين بعدهم كأن جفونها = سملت بشوك فهي عور تدمع

وتجلدي للشامتين أريهم = أني لريب الدهر لا أتضعضع

حتى كأني للحوادث مروة = بصفا المشقر كل يوم تقرع

لابد من تلف مقيم فانتظر= أبأرض قومك، أم بأخرى المضجع

ولقد أرى أن البكاء سفاهة = ولسوف يولع بالبكا من يفجع

وليأتين عليك يوم مرة =يبكى عليك مقنعا لاتسمع

والنفس راغبة إذا رغبتها = وإذا ترد إلى قليل تقنع

أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع

الرجل العربي عادة يستطيع أن يثأر ممن قتل أبناءه فتشفى نفسه بذلك، ولكن الشاعر هنا يتوجع ويتألم لأنه لايستطيع أن يثأر أو أن يقتص من الدهر، مما زاد من ألمه ووجعه.

المنون: جاءت على صيغة الجمع فلم يقل المنية وهو مايجعل القارئ يعود إلى مناسبة القصيدة وهي موت أبنائه السبعة.

قالت أميمة مالجسمك شاحبا ... منذ ابتذلت، ومثل مالك ينفع

شاحبا: تعني السيف الذي تغير لونه بما يبس عليه من الدم، فيخيل إلي أن الشاعر من هول الصدمة - وهي موت أبنائه - توقف الدم في عروقه مما أدى إلى تغير لونه.

أودى بني، فأعقبوني حسرة ..... بعد الرقاد، وعبرة ماتقلع

* (أعقبوني) أعقب قد تأت بمعنى أورث والإنسان عادة يرث الخير والمال من الميت أما الشاعر ورث من أبنائه الحسرة والعبرة.

* (بعد الرقاد) أظن أن الشاعر لم يتقبل الصدمة بعد فهو مازال يشك في موت أبنائه بدليل استخدامه كلمة (الرقاد) وهي تعني النوم ولا بد للنائم أن يستيقظ.

* أعجبتني رواية البيت في كتاب المفضليات حين قال (فأعقبوني غصة)

لأن الغصة هي ما يعترض في الحلق من طعام فيؤدي ذلك إلى حدوث الشرق ومن ثم السعال مما يؤدي إلى ظهور العبرة في العين.

فغبرت بعدهم بعيش ناصب ... وإخال أني لاحق مستتبع

غبر الجرح يغبر غبرا أي اندمل على فساد ثم ينتقض بعد ذلك، فكأن الشاعر يحاول أن يلم جراح قلبه وهو (موت أبنائه) حتى يلتئم هذا الجرح ثم لا يلبث أن يعود فيتذكر المأساة من جديد فيفتح الجرح النفسي مرة أخرى ليعود إليه هذا الألم والوجع، أي كأنه يريد أن يوصل إلينا فكرة أن موت أبنائه جرح لا يندمل بل هو ألم متكرر من المستحيل أن يلتئم.

ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... فإذا المنية أقبلت لا تدفع

(حرصت) هنا يتجسد شعور الأب على أبنائه في جلب الخير لهم أودفع الشر عنهم، كما أننا نلاحظ أن الفعل حرص عادة ما يتعدى بحرف الجر (على) ولكن الشاعر أتى بحرف (الباء) الخفيف بدلا من (على) الطويلة النطق وألحقت بأن مما جعلها توحي بسرعة الحركة وردة الفعل.

(أدافع) على وزن أفاعل بمعنى أنه فعل متجدد ومتكرر في حدوثه، ثم أتى بالفاء في (فإذا) وهو الحرف الذي يفيد الجمع والترتيب ولكن بدون فاصل زمني، لأن الموت إذا جاء للإنسان لا يمكن مساعدته ولو كان أقرب الناس إليه مما زاد من ألم الشاعر وحزنه.

وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع

(تجلدي) الشاعر في هذا البيت يحاول أن يلملم أشلاء الحزن التي تخيم عليه، وأن يتماسك ويظهر قوته وصبره أمام الشامتين، كالماء تماما حين يجمع نفسه ليتحول إلى جليد قوي متماسك.

ولقد أرى أن البكاء سفاهة ... ولسوف يولع بالبكا من يفجع

أرى أن الشاعر في هذا البيت أعطانا المفاتيح التي يكون فيها البكاء سفاهة:

فمتى يكون البكاء سفاهة في نظر الشاعر؟

في قوله (ولسوف يولع) أتى بكلمة (سوف) قبل الفعل (يولع) ولم يقل (سيولع) (فسوف) تعطينا فترة زمنية أطول من السين، فكأنه يلمح بالمدة التي تكون بعد الصدمة لذلك كان من المفترض أن ينسى المبتلى مصيبته ويصبر ويرضى بقضاء الله وقدره وأن لايكون حبيسا للبكاء وهذا المعنى الذي أراده في قوله (يولع بالبكا) فيولع تأت بمعنى يحبس، فالإنسان الذي يكون حبيس الحزن والأسى يكون إنسانا غير منتج وغير فعال، لذلك اعتبر الشاعر البكاء سفاهة، خاصة إذا صدر من إنسان ذكر عاقل، وهذا ماعبر عنه عندما استخدم الاسم الموصول (من)، لأن هذا الاسم يستخدم عادة للعاقل، كما أن الخطاب في القصيدة موجه إلى فئة الذكور لا النساء وهذه أيضا أحد الأسباب التي تجعله يصف البكاء بالسفاهة.

ويولع أيضا تأت بمعنى الكذب فالإنسان الذي يصطنع دموعه كذبا بعد مرور فترة من الصدمة ويجعل دموعه هي ديدنه الذي يعيش عليه يعتبر بكاؤه أيضا سفاهة.

نلاحظ طغيان الأسماء على الأفعال في القصيدة والأفعال تعني الحركة والحدوث أي أنها تدل على الحياة، بينما تدل الأسماء على السكون وربما الموت وهو ما يعيدنا إلى مناسبة القصيدة وهي الموت كما أنه يعود إلى حالة السكون التي يعيشها الشاعر وكأنه أقرب للموت ينتظر نصيبه منه بدليل قوله: وإخال أني لاحق مستتبع.

قافية القصيدة: الفتحة ثم العين ثم حركة الإشباع الواو، وماء العين لاينضب كالدموع التي تخرج من العين لينتهي القارئ بالضم الذي هو أقرب لليل والحزن ليضل الشاعر داخل هذه الدائرة لايخرج عن سيطرتها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير