وقد فعله النبى فالجواب أن فعله اذا كان بيانا للجواز لا يكون مكروها بل البيان واجب عليه فكيف يكون مكروها وقد ثبت عنه أنه توضأ مرة مرة وطاف على بعير مع أن الاجماع على أن الوضوء ثلاثا والطواف ماشيا أكمل ونظائر هذا غير منحصرة فكان ينبه على جواز الشئ مرة أو مرات ويواظب على الأفضل منه وهكذا كان أكثر وضوئه ثلاثا ثلاثا وأكثر طوافه ماشيا وأكثر شربه جالسا وهذا واضح لايتشكك فيه من له أدنى نسبة إلى علم والله أعلم وأما قوله (فمن نسى فليستقىء) فمحمول على الاستحباب والندب فيستحب لمن شرب قائما أن يتقايأه لهذا الحديث الصحيح الصريح فان الأمر اذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب
وأما قول القاضي عياض لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب ناسيا ليس عليه ان يتقيأه فأشار بذلك إلى تضعيف الحديث فلا يلتفت إلى إشارته وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع كونها مستحبة فان ادعى مدع منع الاستحباب فهو مجازف لا يلتفت إليه فمن أين له الإجماع على منع الاستحباب وكيف تترك هذه السنة الصحيحة الصريحة بالتوهمات والدعاوى والترهات
وأما قوله:
وقد أشار البخاري إلى تضعيف هذه الأحاديث عندما قال رحمه الله: باب الشرب قائما
قيل بأنه أشار بهذه الترجمة إلى أنه لم يصح عنده الأحاديث الواردة في كراهة الشرب قائما.
ثم أورد رحمه الله أحاديث تبطل أحاديث قتادة.
فقال ابن حجر في "فتح الباري" 10/ 81: قال ابن بطال أشار بهذه الترجمة إلى أنه لم يصح عنده الأحاديث الواردة في كراهة الشرب قائما كذا قال وليس بجيد بل الذي يشبه صنيعه أنه إذا تعارضت عنده الأحاديث لا يثبت الحكم
إذاً فلم يبطل البخاري رحمه الله أحاديث قتادة ولم ينتقدها بالاضطراب كما فعل الباحث تبعا للقاضي عياض رحمه الله وغيره بل كل ما فعله أنه رجح أحاديث الإباحة على النهي
وقال الطحاوي: ففي هذه الآثار إباحة الشرب قائما وأولى الأشياء بنا إذا روى حديثان عن رسول الله فاحتملا الاتفاق واحتملا التضاد أن نحملهما على الاتفاق لا على التضاد وكان ما روينا في هذا الفصل عن رسول الله إباحة الشرب قائما وفيما روينا عنه في الفصل الذي قبله النهي عن ذلك فاحتمل أن يكون ذلك النهي لم يرد به هذه الإباحة ولكن أريد به معنى آخر فنظرنا في ذلك
فإذا فهد قد حدثنا قال ثنا أبو غسان قال ثنا خالد عن بيان عن الشعبي قال إنما أكره الشرب قائما لأنه داء
فأخبر الشعبي في هذا المعنى الذي من أجله كان النهي وأنه لما يخاف منه من الضرر وحدوث الداء لا غير ذلك فأراد رسول الله بذلك النهي الإشفاق على أمته وأمره إياهم بما فيه صلاحهم في دينهم ودنياهم كما قد قال لهم أما أنا فلا آكل متكئا
إلى أن قال: قال مجاهد: كان يكره الشرب من ثلمة القدح وعروة الكوز وقال هما مقعدا الشيطان
فلم يكن هذا النهي من رسول الله على طريق التحريم بل كان على طريق الإشفاق منه على أمته والرأفة بهم والنظر لهم، وقد قال قوم إنما نهى عن ذلك لأنه الموضع الذي يقصده الهوام فنهى عن ذلك خوف أذاها
فكذلك ما ذكرنا عنه في صدر هذا الباب من نهيه عن الشرب قائما ليس على التحريم الذي يكون فاعله عاصيا ولكن للمعنى الذي ذكرناه في ذلك
وقد روينا عن رسول الله فيما تقدم من هذا الباب أنه أتى بيت أم سليم فشرب من قربة وهو قائم من فيها فدل ذلك على أن نهيه الذي روى عنه في ذلك ليس على النهي الذي يجب على منتهكه أن يكون عاصيا ولكنه على النهي من أجل الخوف فإذا ذهب الخوف ارتفع النهي فهذا عندنا معنى هذه الآثار والله أعلم