• قياس حرمة هذه المحرمات بين المسلم والحربي في دار الحرب على حرمتها بين المسلم والمستأمن في دار الإسلام، فإن المستأمن في دار الإسلام يجري تحريم الربا بينه وبين المسلم إجماعاً، ولا يحل له أن يبيعه خمرا أو خنزيرا أو ميتة بلا نزاع [راجع: المجموع للنووي: 9/ 443، والمغني لابن قدامة: 4/ 39]، وممن نقل هذا الإجماع الأحناف أنفسهم [راجع حاشية ابن عابدين: 5/ 186]، فكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، وإلا فهو التناقض الذي لا مهرب منه.
• ما يفضي إليه تحريم هذه المحرمات في علاقة المسلم بالمسلم، وإباحته في علاقة المسلم بالحربي، من التشبه باليهود في تحريمهم الربا في علاقة اليهودي باليهودي، وإباحته في علاقته مع الأمميين! ((ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)) [آل عمران:75].
أما ما ذهب إليه الأحناف في هذا المقام من القول بجواز التعامل بالعقود الفاسدة خارج ديار الإسلام فهو قول مرجوح لا ينهض أمام الأدلة الصحيحة التي قال بموجبها جمهور الفقهاء بتحريم هذه العقود، فضلا عن ما تتضمنه من المآلات الوخيمة والتي سنعرض لها بصدد مناقشتنا لهذه الأدلة بإذن الله.
قال الشافعي رحمه الله: (لا تُسقط دار الحرب عنهم (أي عن المسلمين) فرضًا، كما لا تُسقط عنهم صومًا ولا صلاة). وقال: (والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر)
وقال الشوكاني رحمه الله: (إن الأحكام لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية).
مناقشة أدلة الأحناف
اعتمد الأحناف في مذهبهم على أدلة نصية وعلى أدلة من النظر والاعتبار
أولا: الأدلة النصية
أما الأدلة النصية فهي جميعا موضع نظر، وليس فيها عند التأمل ما يرجح اختيار الأحناف في هذه المسألة، بل إن قول الجمهور كما سبق أقوم قيلا وأهدى سبيلا وذلك على النحو التالي:
1. حديث مكحول: "لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب" وهو يعد عمدة أدلتهم في هذا المقام:
وهذا الحديث قد رده كثير من أهل العلم بالحديث والفقه معاً:
• فقد قال فيه الشافعي رحمه الله: "وما احتج به أبو يوسف لأبي حنيفة ليس بثابت فلا حجة فيه" [سير الأوزاعي للشافعي: 7/ 359]
• وذكره الحافظ إبن حجر في الدراية (2/ 158) وقال: لم أجده أ 0 هـ
• وقال الزيلعي: "غريب" أي لا أصل له
• وقال فيه النووي: "مرسل ضعيف فلا حجة فيه" [المجموع للنووي: 9/ 392]
• وقال العيني في البناية: "هذا حديث غريب ليس له أصل مسند" [الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/ 158]
• وقال ابن قدامة في المغني: "وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك. ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة وانعقد الاجماع على تحريمه بخبر مجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به" [المغني: 4/ 46].
وعلى فرض ثبوته فإنه يحتمل النهي وذلك كقوله تعالى: ((الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)) [البقرة:197].
• قال النووي رحمه الله تعالى: "والجواب عن حديث مكحول أنه مرسل ضعيف فلا حجة فيه، ولو صح لتأولناه على أن معناه لا يباح الربا في دار الحرب جمعاً بين الأدلة" [المجموع للنووي: 9/ 392].
والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، أو يفهم في ضوء الأدلة القاطعة التي تحرم الربا، إذ لا يجوز ترك هذه الأدلة لخبر مجهول لم يرد في كتاب من كتب السنة الصحيحة المعتمدة.
• ومن أدلتهم ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم ليهود بني قينقاع أو ليهود بني النضير عندما قالوا له إن لنا ديونًا لم تحل بعد، فقال: "تعجلوا أو ضعوا"، ومعلوم أن هذه المعاملة بين المسلمين تكون من باب الربا
والاستدلال بذلك موضع نظر لأن قاعدة ضع وتعجل من القضايا المختلف فيها بين أهل العلم، وقد أجازها بعض الصحابة نذكر منهم: عبد الله بن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. والقول بحلها بين المسلمين وعدم اعتبارها من الربا المحرم هو أحد القولين لكل من الإمامين الشافعي وأحمد، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وأجازها ابن عابدين من فقهاء الحنفية كما في حاشيته على "الدر المختار" (5/ 160). وقد أجازها المجمع الفقهي بمنظمة المؤتمر الإسلامي إذا وقعت بين الدائن والمدين ولم تكن عن اشتراط مسبق،
¥