وهذا إمام السنة أحمد بن حنبل يسأله رجل فيقول له: إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيهاً؟ قال: لا. قال:فمائتي ألف؟ قال: لا. قال: فثلاثمائة ألف؟ قال: لا. قال: فأربعمائة ألف؟ قال: بيده هكذا وحرك يده. يعني له إذا حفظ هذا المقدار الكبير من الأحاديث مع العلم بالعربية والأصول وأقوال من سبقه، لعله بعد هذا كله يكون أهلاً أن يفتي الناس بقوله واجتهاده. انظر إعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله تعالى (1/ 45).
وقد قيل للإمام الحنبلي الكبير ابن شاقلا: فأنت تحفظها؟ فقال: إن لم أحفظها فإني أفتي بقول من يحفظها وأكثر منه.
يقصد أنه يقلد في الفتوى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
وابن شاقلا رحمه الله هو الذي يقول عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/ 292): شيخ الحنابلة أبو إسحاق ... كان رأسا في الأصول والفروع. اهـ
وهذا الإمام الكبير ابن وهب رحمه الله يقول: اقتدينا في العلم بأربعة اثنان بمصر، واثنان بالمدينة، الليث بن سعد وعمرو بن الحارث بمصر، ومالك بن أنس وعبد العزيز الماجشون بالمدينة، لولا هؤلاء لكنا ضالين. انظر تاريخ دمشق (45/ 464).
وقال الإمام ابن وهب: لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت.
فقيل له: كيف ذلك؟
فقال: أكثرت من الحديث فحيرني، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان: خذ هذا، ودع هذا. انظر ترتيب المدارك (2/ 427) والديباج المذهب (1/ 133).
وابن وهب هذا هو الذي يقول الذهبي في ترجمته كما في سير أعلام النبلاء (9/ 223): عبد الله بن وهب ... الإمام شيخ الإسلام ... الحافظ ... كان من أوعية العلم ومن كنوز العمل ... وعن سحنون الفقيه قال: كان ابن وهب قد قسم دهره أثلاثا، ثلثا في الرباط وثلثا يعلم الناس بمصر، وثلثا في الحج، وذكر أنه حج ستا وثلاثين حجة. اهـ
وذكر الإمام الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/ 158) عن الإمام أبي العباس بن عقدة أن رجلا سأله عن حديث، فقال: أقلوا من هذه الأحاديث، فإنها لا تصلح إلا لمن علم تأويلها.
وقال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله: كثير من هذه الأحاديث ضلالة، لقد خرجت مني أحاديث لوددت إني ضربت بكل حديث منها سوطين وإني لم أحدث به، ولعله يطول عمره، فتنزل به نازلة في دينه، يحتاج أن يسأل عنها فقيه وقته، وعسى أن يكون الفقيه حديث السن فيستحي. اهـ ذكر ذلك الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/ 158).
قال الإمام الحاكم: فمالك بن أنس على تحرجه وقلة حديثه يتقى الحديث هذه التقية فكيف بغيره ممن يحدث بالطم والرم. اهـ انظر معرفة علوم الحديث للخطيب البغدادي (ص61).
وكان الإمام مالك وهو من هو يحث أقرب الناس له على الإقلال من الحديث والسعي في طلب فقهه، فقد قال لابني أخته أبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس: أراكما تحبان هذا الشأن – جمع الحديث وسماعه – وتطلبانه.
قالا: نعم. قال: إن أحببتما أن تنتفعا به، وينفع الله بكما، فأقلا منه، وتفقهاً. انظر الفقيه والمتفقه (2/ 159).
وهذا الإمام الفضل بن دُكَين شيخ الإمام البخاري يقول: كنت أمرُّ على زفر وهو محتب بثوب، فيقول: يا أحول، تعال حتى أغربل لك أحاديثك. فأريه ما قد سمعت، فيقول: هذا يؤخذ به، وهذا لا يُؤخذ به، وهذا ناسخ، وهذا منسوخ. اهـ انظر الفقيه والمتفقه (2/ 163).
وجالس الإمام أحمد كثيرا من المحدثين، وأخذ عنهم وانتفع بهم، ولكن كان لفقه الشافعي أعظم الأثر في نفسه، حتى قال: هذا الذي ترون، كله أو عامته من الشافعي، وما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا ادعوا الله للشافعي، واستغفر له.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسته.
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: كان الشافعي أفقه الناس في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قليل الطلب للحديث.
وقال الإمام المحدث ابن معين لصالح بن أحمد بن حنبل: ما يستحي أبوك!! رأيته مع الشافعي، والشافعي راكب وهو راجل، ورأيته وقد أخذ بركابه، قال صالح: فقلت لأبي. فقال لي: قل له: إن أردت أن تتفقه فخذ بركابه الآخر.
قال الإمام الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/ 159): وليعلم أن الإكثار من كَتْبِ الحديث وروايته لا يصير بها الرجلُ فقيهاً، إنما يتفقه باستنباط معانيه، وإنعام التفكر فيه. اهـ
¥