مما لا يخفى أن المجتهدين في هذه الأمة المباركة عدد لا يحصى، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فلماذا ساد في الأمة تقليد هذه المذاهب الأربعة فقط؟ نترك الإمام ابن رجب الحنبلي يجيبنا عن هذا السؤال، قال رحمه الله كما في رسالته الموسموة بـ (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة) (ص33):
فإن قيل: نحن نسلِّم منع عموم الناس من سلوك طريق الاجتهاد؛ لما يفضي ذلك إلى أعظم الفساد. لكن لا نسلم منع تقليد إمام متبع من أئمة المجتهدين غير هؤلاء الأئمة المشهورين.
قيل: قد نبهنا على علة المنع من ذلك، وهو أن مذاهب غير هؤلاءلم تشتهر ولم تنضبط، فربما نسب إليهم ما لم يقولوه أو فهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذب عنها وينبه على ما يقع من الخلل فيها بخلاف هذه المذاهب المشهورة. اهـ
وما بيَّنَهُ الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله واضح، لأنه لا يمكن لأحد أن يعرف مذهب الصحابة، ولو في كبريات المسائل، فالصلاة مثلاً التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، لا يمكن لأحد أن يميز بين ما هو فرض وما هو سنة ناسباً ذلك لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكذا بقية الصحابة رضي الله عنهم.
ولهذه العلة – أعني عدم حفظ مذاهبهم - وجدنا من الأئمة الكبار من يمنع تقليد الصحابة رضي الله عنهم، بل ويحكي إجماع المحققين على ذلك، فهذا إمام الحرمين الجويني المولود سنة (417هـ) والمتوفى سنة (478هـ) يقول كما في كتابه البرهان
(2/ 744): أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين، والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين وأسوة للمسلمين؛ فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد، وإيضاح طرق النظر والجدال وضبط المقال، ومن خَلْفَهُم مِنْ أئمةِ الفقهِ كَفَوا مَنْ بَعْدَهُمُ النظرَ في مذاهبِ الصحابةِ، فكان العاميُ مأموراً باتباعِ مذاهبِ السابرين. اهـ
وقد زاد الأمر وضوحاً الإمامُ المحدث ابن الصلاح، قال الإمام ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى (8/ 340): وأما ابن الصلاح فجزم في كتاب الفتيا بما قاله الإمام – أي إمام الحرمين - وزاد أنه لا يُقَلِّدَ التابعينَ أيضاً، ولا مَنْ لم يُدوَّن مذهبه، وإنما يقلد الذين دُوِّنَتْ مذاهبهم وانتشرت، حتى ظهر منها تقييد مطلقها وتخصيص عامها، بخلاف غيرهم فإنه نقلت عنهم الفتاوى مجردة، فلعل لها مكملا أو مقيدا أو مخصصا، لو انبسط كلام قائله لظهر خلاف ما يبدو منه، فامتنع التقليد إذاً لتعذرِ الوقوفِ على حقيقة مذاهبهم. اهـ
وظاهرٌ من كلام الأئمة رحمهم الله أنَّ علة المنع من تقليد غير الأربعة هو عدم الثقة بمذاهبهم، فإذا أمِنَّا هذا الجانب، جاز تقليد المجتهدين من الصحابة فمن بعدهم، ولكن هذا في عمل النفس، لا في الإفتاء والقضاء، أما المفتي والقاضي فلا يخرجان عن المذاهب الأربعة، وهذا أمر واضحٌ مقرَّرٌ، أجمعت عليه الأمة عملاً، فإن جميع بلدان الإسلام كانت تقيم القضاء على مذهب من المذاهب الأربعة، ويتولى الإفتاء فيها أئمة من المذاهب الأربعة.
تقليد غير المذاهب الأربعة
وتقليد المسلم في حق نفسه لمذهبٍ غير المذاهب الأربعة، يشترط له شروط:
أولها: أن يكون المذهب الذي يريد تقليده مما يجوز تقليده، فلا يصح له أن يقلد المذهب الشيعي أو الإباضي مثلاً.
ثانيها: أن يكون عارفاً بمذهب الإمام الذي سيقلده، كمن أراد أن يقلد مذهب صحابيٍ أو تابعيٍ، أو أراد أن يقلد إمام أهل السنة بالشام الإمام الأوزاعي، أو الثوري أو أبو ثور أو سفيان ابن عيينة، ونحو هؤلاء.
ثالثها: أن يكون المذهب الذي يريد تقليده منقولاً عن طريق العدول الضابطين.
رابعها: أن يكون عارفاً بتفاصيل تلك المسألة أو المسائل التي يريد أن يقلد فيها، وما يتعلق بها على مذهب ذلك المقلد.
خامسها: إذا أراد أن يقلد أكثر من إمام، فيشترط حينئذٍ أن لا يلفق قولاً لم يسبق إليه، ومثالُ ذلك: من أراد أن يقلد الإمام مالك رحمه الله في عدم نجاسة الكلب ويقلد الشافعي رحمه الله في الاكتفاء بمسح بعض الرأس في الوضوء، فهذه الصورة من التقليد ممنوعة اتفاقا، وقيل إجماعا، لأنه إذا صلى في هذه الحالة، فإن كلاً من الإمامين سيحكم على صلاته بالبطلان، أما الإمام مالك رحمه الله فسيحكم على صلاته بالبطلان لأنه مسح شعرتين أو ثلاث، ولم يعم الرأس بالمسح، وأما الإمام الشافعي رحمه الله فسيحكم على صلاته بالبطلان، لأنه متلبس بنجاسة الكلب في ثوبه أو بدنه.
فإذا وجدت هذه الشروط الخمسة فعبادات المقلد ومعاملته المشتملة على ذلك التلفيق صحيحة، وإن اختلت هذه الشروط أو بعضها فعبادته غير صحيحة، ويلزمه القضاء فورا.
فإذا أحببتَ أن تقلد إماماً من خارج المذاهب الأربعة، وقد توفرت الشروط السابقة، فلا يشترط ما يلي:
أولاً: لا يشترط أن يكون قول الإمام الذي تقلده موافقاً لأحد المذاهب الأربعة.
ثانياً: ولا يشترط أن يكون مذهب ذلك الإمام منقولا بالتواتر، بل يكفي أن يكون منقولاً بنقل العدول، ولو آحاداً.
ثالثاً: ولا يشترط أن يكون مذهب ذلك الإمام قد دون في كتب مستقلة، بل يكفي أخذه من كتب الموثوقة التي تعتني بذكر أقوال العلماء.
وكل هذا الذي ذكرته، أشار إليه العلماء في كتب الأصول، وأحسن من جمع ذلك الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله في الفتاوى الفقهية الكبرى (4/ 326).
¥