ـ[سيف بن علي العصري]ــــــــ[13 Jul 2006, 06:54 ص]ـ
المقدمة السابعة: نبذة مختصرة عن المذاهب:
من المهم أن يكون عند طالب العلم ثقافة عامة عن المذاهب السُّنيَّة، عن تاريخ نشأتها، وأماكن انتشارها، وكبار رجالاتها، ونُفْسِحُ المجال للإمام الكبير القاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي ليحدثنا عن ذلك.
قال رحمه الله كما في ترتيب المدارك وتقريب المسالك (17/ 1): وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإقتداء بالخلفاء بعده وأصحابه، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الناس ليفقهوهم في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، وإذا كان هذا الأمر لازماً لا بد منه، فكان أولى من قلده العامي الجاهل، والمبتدئ المتعبد، والطالب المسترشد، والمتفقه في دين الله تعالى، وأحق بذلك فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أخذوا عنه العلم، وعلموا أسباب نزول الأوآمر والنواهي، ووظائف الشرائع، ومخارج كلامه عليه السلام، وشاهدوا قرائن ذلك، وثاقبوا في أكثرها النبي صلى الله عليه وسلم واستفسروه عنها، مع ما كانوا عليه من سعة العلم، ومعرفة معاني الكلام، وتنوير القلوب، وانشراح الصدور، فكانوا أعلم الأمة بلا مرية وأولاهم بالتقليد، لكنهم لم يتكلموا من النوازل إلا في اليسير مما وقع، ولا تفرعت عنهم المسائل، ولا تكلموا من الشرع إلا في قواعد ووقائع، وكان أكثر اشتغالهم بالعمل مما علموا، والذبّ عن حوزة الدين، وتوكيد شريعة المسلمين.
ثم بينهم من الاختلاف في بعض ما تكلموا فيه ما يبقي المقلد في حيرة، ويحوجه إلى نظر وتوقف، وإنما جاء التفريع والتنتيج وبسط الكلام فيما يتوقع وقوعه بعدهم، فجاء التابعون فنظروا في اختلافهم، وبنوا على أصولهم، ثم جاء مِنْ بَعْدِهم العلماء من أتباع التابعين، والوقائع قد كثرت، والنوازل قد حدثت، والفتاوى في ذلك قد تشعبت، فجمعوا أقاويل الجميع، وحفظوا فقههم، وبحثوا عن اختلافهم واتفاقهم، وحذروا انتشار الأمر، وخروج الخلاف عن الضبط، فاجتهدوا في جمع السنن، وضبط الأصول، وسألوا فأجابوا، وبنوا القواعد ومهَّدوا الأصول، وفرعوا عليها النوازل، ووضعوا في ذلك للناس التصانيف وبوبّوها، وعمل كل واحد منهم بحسب ما فتح عليه ووفق له.
فانتهى إليهم علم الأصول والفروع والاختلاف والاتفاق، وقاسوا على ما بلغهم ما يدل عليه ويشبه، رضي الله عن جميعهم، ووفاهم أجر اجتهادهم، فالمتعين على المقلد العامي وطالب العلم المبتدئ أن يرجع في التقليد لهؤلاء، لنصوص نوازله، والرجوع فيما أشكل من ذلك إليهم، ولاستغراق علم الشريعة ودورها عليهم، وإحكامهم النظر في مذاهب من تقدمهم، وكفايتهم ذلك لمن جاء بعدهم، لكن تقليد جميعهم لا يتفق في أكثر النوازل، وجمهور المسائل، لاختلافهم باختلاف الأصول التي بنوا عليها، ولا يصلح أن يقلد المقلد من شاء منهم على الشهوة ... فحظه هنا من الاجتهاد النظر في أعلمهم ... ، ويعرف الأولى بالتقليد من جملتهم، حتى يركن العامي في أعماله إلى فتواه، ... إذ لو ابتدأ الطالب في كل مسألة فطلب الوقاف على الحق منها بطريق الاجتهاد عسر عليه ذلك، إذ لا يتفق له إلا بعد جمع خصاله وتناهي كماله، وإذا كان بهذا السبيل استغنى عن تقليد أرباب المذاهب، وكان من المجتهدين لنفسه فسبيله أن يقلِّد من يعرِّفُهُ أنَّ هذا هو الحق، حتى إذا أدرك من العلم ما قيض له، وحصل منه ما قسم الله تعالى له، وأفلح وكان فيه عمل للنظر والاجتهاد انتقل إلى ذلك وأدركه، فإذا تقررت هذه المقدمة فنقول:
قد وقع إجماع المسلمين في أقطار الأرض على تقليد هذا النمط واتباعهم ودرس مذاهبهم دون من قبلهم، ومع الاعتراف بفضل من قبلهم وسبقه ومزيد علمه، لكن للعلل التي ذكرنا وكفاية ما نحلوه وانتقوه من ذلك كما قدمنا ... فكان المقلَّدون المُقْتَدَى بمذاهبهم أصحاب الأَتْبَاعِ في سائر الأقطار والبقاع كثرة قبل مالك بن أنس بالمدينة، وأبو حنيفة والثوري بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة على ما تقدم منه، والأوزاعي بالشام، والشافعي بمصر، وأحمد بن حنبل بعده ببغداد وكان لأبي ثور هناك أيضاً أتباعٌ.
ثم نشأ ببغداد أبو جعفر الطبري، وداود الأصبهاني، فألفا الكُتُب واختارا في المذاهب على آراء أهل الحديث، واطَّرَحَ داودُ منها القياسَ، وكان لكل واحد منهما أتْبَاعٌ، وسَرَتْ جميعُ هذه المذاهب في الآفاق، فغلب مذهب مالك على الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد أفريقية والأندلس وصقلية والمغرب الأقصى، إلى بلاد من أسلم من السودان إلى وقتنا هذا، وظهر ببغداد ظهوراً كثيراً وضعف بها بعد أربعمائة سنة، وضعف بالبصرة بعد خمسمائة سنة، وغلب من بلاد خراسان على قزوين وأبهر وظهر بنيسابور، وكان بها وبغيرها أئمة ومدرسون ... وكان ببلاد فارس وانتشر باليمن وكثير من بلاد الشام.
وغلب مذهب أبي حنيفة على الكوفة والعراق وما وراء النهر وكثير من بلاد خراسان إلى وقتنا، وظهر بإفريقية ظهوراً كثيراً إلى قريب من أربعمائة عام فانقطع منها، ودخل منه شيءٌ ما وراءها من المغرب قديماً بجزيرة الأندلس، وبمدينة فاس.
وغلب مذهب الأوزاعي على الشام وعلى جزيرة الأندلس أولاً إلى أن غلب عليها مذهب مالك بعد المائتين فانقطع.
وأما مذهب الحسن والثوري فلم يكثر أتْبَاعُهُما، ولم يطل تقليدهما وانقطع مذهبهما عن قريب.
وأما الشافعي فكثر أتباعه وظهر مذهبه ظهور مذهبي مالك وأبي حنيفة قبله، وكان أول ظهوره بمصر وكثر أصحابه بها مع المالكية وبالعراق وبغداد، وغلب عليها وعلى كثير من بلاد خراسان والشام واليمن إلى وقتنا أتباعهم والاقتداء بمذاهبهم ودَرْسِ كُتُبِهم، والتفقه على مآخذهم، والبناء على قواعدهم، والتفريع على أصولهم دون غيرهم ممن تقدمهم أو عاصرهم، للعلل التي ذكرناها، وصار الناس اليوم في أقطار الدنيا إلى خمسة مذاهب: مالكية وحنفية وشافعية وحنفية وحنبلية وداودية وهم المعرفون بالظاهرية. اهـ
¥