تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

جارحتيهما لا يملان ولا يسئمان بخلاف شهوة البطن فإنه إذا امتلىء لم يبق فيه إرادة للطعام، وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام فجنايتهما متسعة الأطراف كثيرة الشعب عظيمة الآفات. وكان السلف يحذرون من فضول النظر كما يحذرون من فضول الكلام وكانوا يقولون: ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان. وأما فضول الطعام فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر. فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شراً فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام وكم من طاعة حال دونها. فمن وقى شر بطنه. فقد وقى شراً عظيماً، والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام. ولهذا جاء في بعض الآثار ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه]، ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل، واذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده ومناه وشهاه وهام به في كل واد. فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات. وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت. وأما فضول المخالطة فهي الداء العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات. وهي في القلوب لا تزول بفضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة. وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة. ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.

أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يستغني عنه في اليوم والليلة. فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر وهم العلماء بالله، وأمره ومكايد عدوه، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب من مخالطتهم الربح كله.

القسم الثاني: من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض، فما دمت صحيحاً فلا حاجة لك في خلطته وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للإدواء ونحوها.

القسم الثالث: وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا. ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما. فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف. ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضرباً عليك. فإذا فارقك سكن الألم. ومنهم من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها. بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به. فهو يحدث من فيه كلما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها، ولا جرها على الأرض. ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر. ورأيت يوماً عند شيخنا قدس الله روحه رجلاً من هذا الضرب والشيخ يحمله، وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إلي وقال مجالسة الثقيل: حمى الربع، ثم قال، لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة أو كما قال: وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة. ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً.

القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم. فإن اتفق لآكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء. وما أكثر هذا الضرب في الناس، لأكثرهم الله وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعون إلى خلافها الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً. فيجعلون البدعة سنة والسنة بدعة والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً إن جردت التوحيد بينهم قالوا: تنقصت جناب الأولياء والصالحين وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير غلو، ولا تقصير قالوا: أنت من المشبهين. وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف، ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا: أنت من المفتنين. وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها. قالوا: أنت من أهل البدع المضلين. وإن انقطعت إلى الله تعالى وخليت بينه وبين جيفة الدنيا. قالوا: أنت من الملبسين. وإن تركت ما أنت عليه، واتبعت أهواءهم فأنت عند الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين. فالحزم كل الحزم التماس مرضات الله تعالى ورسوله بإغضابهم. وأن لا تشتغل بأعتابهم ولا باستعتابهم ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم فإنه عين كمالك كما قال:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص =فهي الشهادة لي بأني فاضل وقال آخر:

وقد زادني حباً لنفسي أنني = بغيض إلى كل امرىء غير طائل

فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم. وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة، واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان. فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه أبواب جهنم، وفتح عليها أبواب الرحمة وانغمر ظاهره وباطنه. ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء فعند الممات يحمد القوم التقي، وفي الصباح يحمد القوم السري والله الموفق لا رب غيره، ولا إله سواه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير