وأما مراقبة الظواهر: فهي ضبط الجوارح، قال سري: "الشوق والأنس يرفرفان على القلب فكان هناك الإجلال والهيبة حلا ولا رحلا"، ومن ظهر الخشوع على قلبه دخل الوقار على جوارحه، قال حاتم الأصم: "إذا عملت فانظر نظر الله إليك وإذا شكرت فاذكر علم الله فيك"، وقال أبو الفوارس الكرماني: "من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة ":
كانَ رَقيباً مِنكَ يَرعَى خواطِري =وآخرٌ يَرعَى نَاظِرِي ولساني
فما نَظرَت عينايَ بعدك منظراً =لعمرك إِلاَّ قُلتَ: قَد رمقاني
وَلا بَدَرَت مِن فِيَّ بَعدَكَ لَفظَةً =لِغيركَ إِلاَّ قُلتَ: قَد رمقاني
وَلا خَطَرَت فِي ذِكرِ غيركَ خَطرَةً =على القَلبِ إِلاَّ عَرجَا بعنان
وَفتيان صِدقٍ قد سمِعتَ كَلامُهُم=وعُفِّفَ عَنهُم خاطِري وجِناني
وَما الدَّهرُ أَسلاً عنهُم غيرَ أَنَني =أَراكَ على كل الجهاتِ تراني
إِلى متى تميل إلى الزخارف، وإلى كم ترغب لسماع الملاهي المعازف، أما آن لك أن تصحب سيداً عارف، قد قطع الخوف قلبه وهو على علمه عاكف، يقطع ليله قياماً ونهاره صياماً لا يميل ولا آنف، دائم الحزن والبكاء متفرغٌ له ومنه خائف، ومع ذلك يخشى القطيعة والانتقال إلى صعب المتالف، وأنت في غمرة هواك وعلى حب دنياك واقف؟!
كأني بك وقد هجم عليك الحمام العاسف، وافترسك من بين خليلك وصديقك المؤالف، وتخلَّلى عنك حبيبك وقريبك ومن كنت عليه عاطف، لا سيتطيعون رَدَّ ما نزل بك ولا تجد له كاشف، وقد نزلت بفناء من له الرحمة والإحسان واللطائف، فلو عاتبك لكان عتبه على نفسك من أخوف المخاوف، وإن ناقشك في الحساب فأنت تألف ...
أين مقامك من مقام الأبطال يا بطال؟ يا كثير الزلل والخطايا يا قبيح الفعال، كيف قنعت لنفسك بخساسة الدون يا معنون، وغرتك أمانيك بحب الدنيا يا مفتون، هلا تعرضت لأوصاف الصدق فاستحليت بها القالب الحق: ? التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ ?.
إلى متى أنت مريض بالزكام، ومتى تستنشق ريح قميص يوسف عليه السلام، يا غلام لعله يرفع عن بصيرتك حجاب العمى، وتقف متذللاً على باب إله الأرض والسماء، خرج قميص يوسف مع يهوذا من مصر إلى كنعان فلا أهل القافلة علموا بريحه ولا حامل القميص علم، وإنما قال صاحب الوجد: ? إِنِّي لأََجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ?.
كل واحد منكم في فقد قلبه كيعقوب في فقد يوسف، فلينصب نفسه في مقام يعقوب ويتحسر وليبك على ما سلف، ولا ييأَس.
ـ[الطبيب]ــــــــ[21 Jan 2007, 02:53 م]ـ
توبة الخواص
قال ابن القيم رحمه الله في المدارج:
فصل وفوق هذا مقام آخر من التوبة أرفع منه وأخص لا يعرفه إلا الخواص المحبون الذين يستقلون في حق محبوبهم جميع أعمالهم وأحوالهم وأقوالهم فلا يرونها قط إلا بعين النقص والإزراء عليها ويرون شأن محبوبهم أعظم وقدره أعلى من أن يَرضَوا نفوسهم وأعمالهم له فهم أشد شيء احتقاراً لها وإزراء بها وإذا غفلوا عن مراد محبوبهم منهم ولم يوفوه حقه: تابوا إليه من ذلك توبة أرباب الكبائر منها فالتوبة لا تفارقهم أبدا وتوبتهم لون وتوبة غيرهم لون ? وفوق كل ذي علم عليم ? [يوسف: 76] وكلما ازدادوا حبا له ازدادوا معرفة بحقه وشهودا لتقصيرهم فعظمت لذلك توبتهم ولذلك كان خوفهم أشد وإزراؤهم على أنفسهم أعظم وما يتوب منه هؤلاء قد يكون من كبار حسنات غيرهم.
وبالجملة: فتوبة المحبين الصادقين العارفين بربهم وبحقه: هي التوبة وسواهم محجوب عنها، وفوق هذه توبة أخرى الأولى بنا الإضراب عنها صفحا.
ـ[الطبيب]ــــــــ[21 Jan 2007, 02:56 م]ـ
من حِكَم الله في الذنوب
قال ابن القيّم رحمه الله في المدارج:
فلله سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب آثارها من الآيات والحكم وأنواع التعرفات إلى خلقه وتنويع آياته ودلائل ربوبيته ووحدانيته وإلهيته وحكمته وعزته وتمام ملكه وكمال قدرته وإحاطة علمه ما يشهده أولو البصائر عيانا ببصائر قلوبهم فيقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك إن هي إلا حكمتك الباهرة وآياتك الظاهرة.
ولله في كل تحريكة =و تسكينة أبداً شاهد
و في كل شيء له آية=تدل على أنه واحد
فكم من آية في الأرض بينة دالة على الله وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه حق كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم كآيته في إغراق قوم نوح وعلو الماء على رءوس الجبال حتى أغرق جميع أهل الأرض ونجى أولياءه وأهل معرفته وتوحيده فكم في ذلك من آية وعبرة ودلالة باقية على ممر الدهور وكذلك إهلاك قوم عاد وثمود، وكم له من آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى عليه السلام إليهم بل قبل مبعثه إلى حين إغراقهم لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات والعجائب وفي التوراة أن الله تعالى قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسي قلبه وأمنعه عن الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي بمصر وكذلك فعل سبحانه فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر.
وكذلك إظهاره سبحانه ما أظهر من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم بسبب ذنوب قومه ومعاصيهم وإلقائهم له في النار حتى صارت تلك الآية حتى نال إبراهيم بها ما نال من كمال الخلة، وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده بسبب صبرهم على أذى قومهم وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم، وكذلك اتخاذ الله تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم بسبب صبرهم على أذى بني آدم من أهل المعاصي والظلم ومجاهدتهم في الله وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو بعينه وعلمه واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات، إلى غير ذلك من المصالح والحكم التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله ويسخطه وكان ذلك محض الحكمة لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده من فوته بتقدير عدم المعصية.
¥