وهذا بضد مذهب السلف في إثبات العقائد، وهذا أهم أصل نتبين منه مخالفتهم للسلف الصالح، فاحفظ هذه ولا يغرنك بها أحد، فقد أرادوا الفرار من تشنيع خصوم الأشعرية، فمتسكوا بجملة قالها السلف لتحقيق مقصدهم من نفي الصفات الذي حاربهم فيه غيرهم.
وكذلك فإن السلف لم يتكلموا في مسائل الاعتقاد إلا رواية للحديث الوارد، أو النص القرآني لمن سأل عن ذلك، دون تأويل ولا تفسير ولا غيره، وما خاضوا في علم الكلام على طريقة المعتزلة أسياد الأشعرية الذين فسقت منهم المفوضة.
أما المفوضة فقد قلنا أنهم تكلموا بذلك، واعتمدوا العقل في إثبات السبع صفات، ثم تحيلوا بهذه الحيلة الباردة، فحمّلوا مذهب الصحابة والتابعين مذهبهم الغث زوراً وإفكاً، وكذلك خاضوا في غير مسائل الصفات ولم يمنعهم مذهب الصحابة والتابعين الذين لم يتكلموا في شيء إلا على سبيل بيان دليل ما تكلموا به من الكتاب والسنة.
وأن سلف الأمة اعتبرت حديث الآحاد حجة في العلم (العقائد) والعمل (الأحكام الشريعة) ولم يفرقوا بين ذلك ألبتة، فكل حديث صح وإن كان من طريق الآحاد فهو مقبول يوجب أن نعتقد ما فيه، وأن نعمل بما أمر به من أحكام شرعية، وتلك السيرة الفاضلة.
بخلاف المفوضة الذي قالوا بأن خبر الآحاد لا يوجب علماً، أي لا تؤخذ منه العقائد، فكيف نزعم أن المفوضة كمذهب السلف لمجرد أنهم وافقوا السلف في حكاية أن المعنى غير معلوم! فشتان بينهما، فكيف يجتمع المغربي بالشامي! أو بعد هذا يكون سلفهم الصحابة والتابعين! لا والله حتى يلجوا سم الخياط.
فلا بد حين تذكر المفوضة أن تذكر أنهم موافقون للسلف الصالح في عدم تفسير بعض الألفاظ الواردة بالنص والمتعلقة بذات الله تعالى، وأن أصلهم في هذه الموافقة، أو المخالفة ليست هي أصل السلف الصالح، وأنهم تكلموا في أشياء خالفوا فيها السلف الصالح، وبهذا يفترقان ولا يجتمعان أصلاً، ولا يكون السلف هم سلف المفوضة المدعين على سلف الأمة كذباً، فتنبه لهذا الأمر وهذه النسبة حتى لا تقع في الخطأ والخلط.
فحقيقة المفوضة أنهم أشعرية تحيلوا بحيلة باردة وقالوا أن المعنى في بعض الألفاظ الواردة بالنص لا يعلم معناها فراراً من تشنيع خصومهم في باب الأسماء والصفات، فمن عدم التحقيق وركوب الخطأ أن تنسب المفوضة إلى مذهب السلف من الصحابة والتابعين، وفي هذا جور، وعقوق لخيار الأمة.
أما القسم الثاني فهو: الألفاظ الشرعية باعتبار تعلقها بأمر غيبي، أو مشاهد أو محسوس.
وهذا القسم على ضربين:
الضرب الأول: اللفظ الشرعي المتعلق بأمر غيبي.
وهذا يدخل تحته ما ذكرنا من الألفاظ المتعلقة بذات الله تعالى، وكذلك ما تعلق بأمر غيبي لم نشاهده أو نحسه، ومن ذلك ما يجري في الآخرة من أمور نعيم، أو عذاب، فكل ذلك لا ندري حقيقته أصلاً، ومن زعم أنه يعلم هذه الحقيقة فقد كذب؛ لأننا لم نر من ذلك شيئاً، وإنما رأينا بعض ما يشبه ما علمنا أنه يكون في الآخرة، كالجنة، وهي البستان عندنا، وهي بخلاف ذلك، على قاعدة: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فنؤمن بها كما جاءت ولا نفسر حقيقيتها وماهيتها ألبتة، وهي من جملة ما يجب الإيمان به، أي التصديق به وإن لم نشاهده أو نحسه.
وبهذا التقسيم تتحصل على بيان ما يرد في النصوص الشرعية من ألفاظ، وكيف نفسرها، ومتى نقبل التفسير، ومتى نرده، ومتى ندعي معرفتنا تفسير اللفظ، ومتى ندعي عدم معرفتنا للمعنى، أما ما عدا ذلك فهو إما خطأ، وقد وقع في هذا الخطأ كبار، نسأل الله لهم المغفرة والرحمة، وإما أن يقع ذلك جهلاً من قائله، وتقليداً لمن أخطأ، وهذا لا يعتد بقوله، وهو آثم لأنه يقلد غيره فيما لا يحققه، وينسب لله تعالى ما لم يأمره به، فجزاؤه من الله تعالى ما يستحق.
فمن زعم بعد هذا أن الألفاظ المتعلقة بذات الله تعالى معلوم معناها فليذكر برهان ذلك، ولا يردد قول بعض من لم يحقق ما يتكلم فيه ويقول: القرآن نزل بلسان عربي مبين! فقد بيّنا أن اللغة لا تعرف شيء لم تره ولم تحسه، وأن مدعي ذلك كاذب على اللغة العربية وعلى كل لغة يدعي فيها ذلك، وهذا حقه أن يتعلم ثم يتكلم.
وكذلك لا تردد قول من يقول: كيف يخاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بشيء لم يعرفوا معناه؟! مستنكراً للوهم الذي دخل عقلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم قد خاطبهم الله تعالى بشيء لم يروه، ولم يعرفوه، وكذلك قبلتموه، كما قلنا من أمور الغيب التي تكون يوم القيامة، كالنار، والجنة، والحساب، والصراط، والميزان، وغيرها مما ورد ولا يعرف أحد حقيقته وماهيته، أو كيفيته، فإن كنت تقر بأن هذا لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرفه أصحابه رضي الله عنهم، فأنت متلاعب متناقض، حين تثبت أن هناك ألفاظ وردت لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه حقيقتها وماهيتها وكيفياتها، ثم تنكر ههنا ما تقر به تحكماً بالباطل، وكذلك نزيدك من الحروف المقطعة، ونزيدك الملائكة الذين لم نرهم، فكيف تؤمن ببعض الكتاب وتستنكر بعضه لتقرير ما تلقيته من شيوخك وهو خطأ ظاهر البيان؟! نسأل الله السلامة من ذلك.
الضرب الثاني: اللفظ الشرعي المتعلق بأمر محسوس مدرك بالعقل.
فهذه الألفاظ إن طلبنا منا العمل أو الإيمان: فهو كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر المحسوس هو ما تعتمد معرفته على أداوت الحس، كالنظر، والشم، والذوق، واللمس، والسمع، وكذلك ما يدرك من بديهية العقل، فكل ذلك يجب العمل به إن جاء به نص، وكذلك الإيمان والتصديق بها إن كان ما يخبر به النص قد حصل في زمن ليس هو زماننا، وإنما حصل في زمن الصحابة، أو التابعين، أو كل زمن لم ندرك أهله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا آخر ما حررناه باختصار شديد غير مخل إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.
كتبه
محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن جاسم التميمي
ابن تميم الظاهري
باحث إسلامي في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - دولة الكويت -
... المصدر ... http://www.aldahereyah.net/forums/showthread.php?t=906
¥