واعلم أن كثيراً منهم يخبط هنا في هذا المحل، إذ لا تسمع منهم إلا اللجاج والعويل والتصنيف والنسبة للفرق دون تمييز حقيقة أقوال هذه الفرق، وترديد القول: أننا نعرف هذا المعنى من اللغة، ثم لا يعرفون هذا المعنى إذا سئلوا، فنسأل الله السلامة من هذا التناقض والقول المؤدي إلى الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فنقول عن كل ما ذكر الله تعالى عن ذاته: أن لله تعالى يد، وله وجه، وله قدم، وله أصبع، وله عين، وأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا، وأنه يأتي يوم القيامة كما قال في كتابه، وغير ذلك مما نسبه الله تعالى إليه، ولا نتكلم في تفسير الكيفية، أو الماهية ألبتة؛ لأننا لا نعرفه أصلاً لا من لغة، ولا من نص.
وكذلك نقول أن كل ما تعلق بذات الله تعالى فهو حق كما هو لا شيء منه من المجاز، ومن زعم أنه مجاز فقد كذب؛ لأن التقسيم بالحقيقة والمجاز إنما اصطلح عليه البشر، وهو تقسيم باعتبار استعمالهم للفظ في معناه، فإما أن يستعملوه في معناه الذي وضع له: فهو حقيقة، وإما أن يستعملوه في معنى آخر غير الذي وضع له لفائدة، كتشبيه، أو كناية، أو استعارة، ونحوها من طرق صرف اللفظ عن معناه الحقيقي في الاستعمال، وهو المجاز.
أما كلام الله تعالى: فهو سبحانه وتعالى واضع اللغات، فكل ما تكلم فيه فلا ينصرف إلى تقسيم البشر؛ لأنه لا يخضع لقانون البشر في استعمال اللفظ في معناه وعدمه، فله أن يتكلم باللفظ ويريد منه ما عرفناه وأسميناه معنى حقيقي، أو يتكلم به ويريد منه معنى غير الذي استعملناه في الحقيقة، فإن استعمله هكذا: كان حقيقة أيضاً؛ لأن كلامه كله حقيقة، بمعنى أنه يضع اللفظ على المعنى الذي يريد، فاستعمال اللفظ في معناه الحقيقي عندنا: هو استعماله فيما وضع له، ولسنا من وضعه أصلاً إلا ما استحدثنا من اصطلاحات حادثة لم ترد بلسان الشرع، فهي فقط ما تواضعناه لا غيره.
فمن زعم أن الله تعالى يتكلم مجازاً فقد كذب، وأدخل ربه تعالى تحت قانون البشر، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فإنه يزعم أن غيره هو الذي وضع اللغة، وأن الله تعالى إما أن يسير وفق ما وضعه هذا الواضع من أن كذا هو استعمال حقيقي، وإما أن يخالف الاستعمال الحقيقي إلى غيره، وهذا فيه من الخطأ ما فيه، بل الكذب الصريح إذ يقول: إن هناك من وضع اللغة التي تكلم الله تعالى بها في كتابه، وأدخل ربه تحت قانون هذا الواضع، فسبحان الله عما يصفون.
ولا بد أن تعلم: إننا إنما نفهم أن هذا اللفظ يستعمل عندنا على معناه الحقيقي، أو يستعمل على معناه المجازي، إن كان المتلفظ به مخلوق تلقى اللغة من واضعها سبحانه وتعالى.
فكل ما تعلق بذات الله تعالى تحكمنا فيه قاعدة: ليس كمثله شيء، وأننا لا نحيط به علماً سبحانه وتعالى.
فإن كان ليس كمثله شيء، وأننا لا نحيط به علماً، وأننا لم نرى ربنا تعالى، وأنه لم يخبرنا عن ماهيته وحقيقته: فمن ادعى أنه يعلم حقيقة وماهية خالقه سبحانه فليستغفر الله ربه، ويترك هذه القولة الفاسدة الباطلة من كل وجه، والتي لا برهان عليها إلا قول الرجال الذين لم نؤمر باتباعهم.
وإن اعترض معترض وزعم أن هذا قول المفوضة، قلنا: كذبت، وأبنت عن جهلك فيما تتكلم فيه، وأنه يجب عليك أن تتعلم ما تتكلم فيه، وإلا تعرضت لعذاب الله دون أن تدري.
أما مذهب المفوضة والذي اختلط على منهج الصحابة والتابعين في عدم التفسير فقد اختلط على طلبة العلم وكذلك بعض العلماء، فقد جاء المفوضة إلى جملة (نمرها ولا نفسرها) وتعلقوا بها، وجعلوها حجة لهم في تفويضهم، ثم موهوا بأن قالوا: أن مذهبنا هو مذهب السلف!
فالمفوضة يخالفون السلف من الصحابة والتابعين، فلا يمكن بحال أن يكون هؤلاء الأخيار سلف المفوضة المبتدعة، وبيان ذلك:
أن السلف لم يثبتوا ما أثبتوه من مسائل الاعتقاد بالعقل، وإنما اكتفوا بما ورد بالنص ولم يتزيدوا من عند أنفسهم شيئا، ولا ورد عنهم تفسير لشيء متعلق بذات الله تعالى ألبتة من طريق فيها خيرً.
أما المفوضة فهم خليط من الماتريدية والأشعرية الذي أثبتوا الصفات السبع بالعقل، لا بالنص، ثم أتوا إلى بقية الصفات فتعللوا بأننا لا نعرف المعنى ويجب تفويضه كما كان السلف يفعلون، وخالفوا بقية الأشعرية الذي صرفوا بقية الصفات وقالوا هي مجاز!
¥