بأربع عمر أنشأ لكل عمرة منهن سفرة مستقلة، وكان هذا حال السلف رحمهم الله، فقد كان الإمام أحمد وغيره من أهل العلم يمضي العام والعامين والثلاثة وأكثر من ذلك دون أن يعتمر، بل ربما فات أحدهم الحج ولم يستطع أن يأت بحجة الإسلام كابن عبدالبر وابن حزم الأندلسيان رحمهم الله، ولعل بعد الشقة وقيام المانع والعذر حال دون أدائهم لهذا الركن العظيم.
وقد حدثني المحدث الكبير الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن السعد حفظه الله، أن أحد شيوخنا الكبار وقد سماه لي، قام بالحج نيابة عن ابن عبدالبر رحمه الله، كما قام أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري بالحج عن صاحبه. فجزاهما الله خيرا على وفائهم وحسن تكرمهم.
ولا شك أن ما خلقه الله لنا في هذا العصر من وسائل النقل وسبل الراحة باعثا على أن يستكثر المرء من قصده البيت الحرام لحج أو عمرة، وهذا فضل من الله تفضل به علينا فله الحمد والمنة.
والعمرة في رمضان فضلها أشهر من أن أعطف القلم بالحديث عنه، فليس هذا ما دعاني للكتابة والتنبيه.
إنما كان الداعي للكتابة هو غفلة الكثير من الناس وربما شارك في هذا بعض طلاب العلم، عن النظر إلى الأصلح للقلب الذي هو محل نظر الجبار جل في علاه كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح، واعتبار قاعدة الموازنة بين المصالح وتقديم الأصلح، ومعرفة الأولويات والفاضل من المفضول، وما كان خيره ونفعه قاصرا على صاحبه وبين ماكان نفعه متعديا للآخرين، والأمر في هذا كله يرتكز في المقام الأول على النيات والله المستعان، وكما قيل: فكم من قائم محروم ونائم مرحوم، ورب عمل لايأبه له صاحبه فضلا عن الناس، يكون سبب نجاة صاحبه وفوزه يوم القيامة، (فإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وربما كانت حينا سبب من أسباب دخول الجنة) **.
أسأل الله لي ولكم من فضله العظيم، فمدار الأمر في كل هذا على ما تعلق بقلب العامل قبل قالبه.
عليه أحببت أن أذكّر بقاعدة فقهية نافعة، كان للزمان كما نحن الآن في شهر رمضان داع لذكرها والتنويه بها، لما رأيت الكثير ممن استرعاهم الله على بعض خلقه تركوا رعيتهم من زوجات وذراري، وأضاعوا الكثير من الحقوق، قاصدين البيت العتيق للاعتكاف أو المجاورة، وربما ضاق بأحدهم الحال والوقت في الانشغال بالمطعم والمشرب وترتيب المسكن واستقبال الوفود من الأقارب والأصحاب، والأخذ معهم في ماجريّات الحياة، فلم يغنموا الوقت في الصالحات من الأعمال، وربما أوقعوا أسرهم من خلفهم في عنت ومشقة، والأعظم من هذا كله خسارتهم للركن العظيم في أي عبادة بدنية كانت أو قلبية ألا وهو الخشوع والطمأنينة والسكينة والإقبال على الله بقلب خاشع مقبل مطمئن.
والقاعدة تقول: (أن الفضيلة المتعلقة بذات الفعل مقدمة على الفضيلة الزمانية والمكانية).
فالمسلم ينبغي عليه أن يحرص بأن يكون في العبادة حيث كان قلبه، فلربما فاق مصل في مسجد حيه من ركب الصعب والذلول وجاور البيت الحرام، وبيان ذلك كله في مضمون هذه القاعدة العظيمة.
فكل فضيلة متعلقة بذات الفعل، كالخشوع من الصلاة وإن كان في مسجد الحي، وتلاوة القرآن العظيم بتدبر، يفوقان في المثوبة والأجر ما لو كانت هذه الصلاة في البيت الحرام مع افتقاد المصلي للخشوع والطمأنينة، أو قراءة القرآن لأكثر من ختمة دون خشوع ودموع ومسألة وتدبر، فهنا فضيلة قائمة بذات الفعل وهي الخشوع والطمأنينة، فإن تعارضت مع الفضيلة المكانية وهي الصلاة في البيت الحرام أو الزمانية وهي المجاورة في هذا الشهر العظيم مثلا، فالمقدم منهما ماتعلق بذات الفعل لا ماتعلق بشئ خارج عنه.
وزيادة في تجلية الأمر فلو صلى مصل في مكة في مسجد خارج الحرم خلف إمام رق قلبه من قراءته ودمعت عينه واستجمع فكره وقلبه وأقبل على صلاته لكان أفضل من صلاته بين الركن والمقام فاقدا لكل هذا أو أكثره ...
¥