وللتاريخ البعيد والقريب شواهد على ما تردى إليه أمر الخلاف المذهبي ومآسي كثيرة مسطورة، وأفعال مكتوبة منكورة، لم نراع فيها الخلاف، ولم نرتق فيها إلى مرتبة الأخوة التي عبر عنها الشافعي الإمام بقولة رائعة، فعن يونس الصدفي ــ وهو أحد أئمة المصريين وعقلائهم ــ قال:
"ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال يا أبا موسى: ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة" ([2]).
وقال الإمام الذهبي تعليقاً على هذا الكلام النفيس: هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون.
ومن الأمثلة على الخلاف الذي لم يراع فيه الأدب، وجانب الصواب ولازمه الغضب ما يلي:
- لما دخل الشافعي مصر أتاه أصحاب مالك مقبلين هاشين، لأنه كان تلميذ مالك ولم يظنوا أنه يخالف مالكاً في شيء! فلما رأوه مستقل الفكر، واسع العلم، يخالف مالكاً في أشياء جفوه! وتنكروا له! بل أن العالم الكبير أشهب بن عبد العزيز المالكي المصري كان يقول في سجوده:
اللهم أمت الشافعي؛ لا يذهب علم مالك! ([3])
وهذه إحدى العجائب والغرائب الدالة على ضيق الصدر بالخلاف وعدم تقبل الرأي الآخر.
- وهذا بَقيّ بن مَخْلَد، العالم الأندلسي الكبير المتوفى سنة 276 رحمه الله تعالى، كان قد أخذ الحديث من المشرق ودخل به الأندلس ونشره نشراً عظيماً وهاجم به شيوخ الأندلس، فثاروا عليه، لأن علمهم إنما كان بمسائل مالك، وكان بقي يفتي بالأثر فخالفهم في الفتيا مخالفة عظيمة، فعقدوا له المجالس، وبدّعوه، ونسبوه إلى الزندقة، وإلى أشياء أخرى ([4])، وكان ذلك في حقه مخالفة تامة لآداب الخلاف، وبعداً كاملاً عن الوئام والوفاق الذي ينبغي أن يكون في مثل هذه الأحوال، ومن قرأ سيرته عرف عظم أحواله وبراءته مما نُسب إليه.
- وهذا الخلاف بين الحنفية و الشافعية، الذي كان له صور كثيرة من أشدها على النفوس وأمرِّها ما ذكره ياقوت الحموي صاحب كتاب "معجم البلدان" الشهير حيث تكلم فيه عن مدينة أصفهان وذكر مجدها القديم ثم قال:
"وقد فشا فيها الخراب في نواحيها لكثرة الفتن، والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين، فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى، وأحرقتها وخربتها، لا يأخذهم في ذلك إلٌ ولاذمة، وكذلك الأمر في رساتيقها وقراها" ([5]) وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال عن الري بعد مروره بها سنة 617 ومشاهدته خرابها:
"وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية، ووقعت الحروب بينهم، كان الظفر في جميعها للشافعية؛ هذا مع قلة عدد الشافعية، وكان أهل الرستاق –وهم الحنفية – يجيئون إلى البلد بالسلاح الشاكي ([6]) ويساعدون أهل نحلتهم فلم يغنهم ذلك شيئاً حتى أفنوهم .. " ([7])!
ولا أريد أن أذكر أكثر من هذا، فحسبك به دلالة على شؤم الافتراق، وأثره البالغ في إضعاف الأمة وإذهاب ريحها، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
المبحث الثاني
المآسي المترتبة على الخلاف العقديّ
وهذا الافتراق هو الأقسى والأقوى أثراً، وهو الأنكى في الأمة، وينقسم إلى افتراق عقدي بين أهل السنة أنفسهم، وافتراق بين أهل السنة وغيرهم من طوائف وفرق المسلمين، والافتراق في القسم الأول أصعب على النفس وأشد وأقسى؛ وذلك أن أهل السنة كان ينبغي لهم أن يكونوا يداً واحدة على من سواهم، فلما حصلت هذه الفرقة أدت إلى تمزق في الصف، وانقسام في الجبهة الواحدة، وتجرأ عليهم غيرهم من أعدائهم وخصومهم وضعفت الأمة تبعاً لذلك.
ومن أمثلة القسم الأول ــ أي الفرقة بين أهل السنة أنفسهم ــ ما يلي:
(1) الخلاف بين الحنابلة والأشاعرة:
وهذا أدي إلى تصدع مريع، وخلاف طويل، بل أدى إلى فرقة خطيرة تركت أسوأ الآثار في المجتمع المسلم، ومن أمثلة ذلك:
ما حصل للإمام الكبير أبي نُعيم الأصبهاني؛ أحمد بن عبد الله، الثقة، شيخ الإسلام المتوفى سنة 430، والذي كان من حفاظ الدنيا، فقد هُجر بسبب المذهب، وقام إنسان مرة في مجلس تحديث يعلن عن مجلس أبي نعيم الأصبهاني فقام إليه أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام وكاد الرجل يقتل ([8])!
وصدق الذهبي حين علق على الحادثة قائلاً:
"ما هؤلاء بأصحاب الحديث، بل فجرة جهلة، أبعد الله شرهم" ([9]).
وقال الذهبي:
¥