"كان بين الأشعرية والحنابلة تعصب زائد يؤدي إلى فتنة، وقيل وقال، وصداع طويل" ([10]).
وهذا العالم العلامة الأصولي، شيخ القراء أبو عبد الله محمد بن عتيق التميمي القيرواني المعروف بابن كُدِّية الذي كان متعصباً لمذهب الأشعري، جرت بينه وبين الحنابلة فتن وأوذي غاية الإيذاء" ([11]).
وهذا العالم الواعظ أبو بكر عتيق البكري المغربي الأشعري، المتوفى سنة 476، كان قد قدم بغداد، فجلس الناس إليه وامتلأ المجلس، فذكر الحنابلة وحطَّ عليهم، وبالغ، ونبزهم بالتجسيم، فهاجت الفتنة، وكفَّر هؤلاء هؤلاء، والطريف أنه لما عزم البكري على التحديث بجامع المنصور قال نقيب النقباء: قفوا حتى أنقل أهلي فلا بد من قتل ونهب! ثم أغلقت أبواب الجامع، وصعد البكريّ وحوله الأتراك بالقسيّ! إلى آخر القصة المحزنة ([12]).
ومن الأمثلة أيضاً على الخلاف بين أهل السنة ما وقع بين أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري الأشعري وهو ابن الإمام أبي القاسم القشيري، المتوفى سنة 514 رحمه الله تعالى، وبين الحنابلة، فقد ورد بغداد سنة 469، وجلس في المدرسة النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، ومال لنصرته الإمام أبو إسحاق الشيرازي وجماعة، فوقعت الفتنة، وقتل أناس وجرح آخرون! وحصلت مأساة انتهت بتسكين الفريقين وإخراج القشيري من بغداد إلى نيسابور ([13]).
ومن المآسي الكبيرة ما وقع لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري الحنبلي عبد الله بن محمد بن علي، حيث قدم السلطان الكبير السلجوقي ألب أرسلان إلى هراة ــ بأفغانستان الآن ــ فاجتمع عنده مشايخ البلد ورؤساؤه، وحدَّثوه أن الأنصاري مجسم، وأنه يعبد صنماً يزعم أن الله تعالى على صورته ــ وكانوا قد تمالأوا على وضع صنم في قبلة محراب أبي إسماعيل في داره ــ فبعث السلطان جماعة إلى دار أبي إسماعيل استخرجوا الصنم من قبلة محرابه، وكان صنماً صغيراً من نحاس دسوه تحت سجادته، فغضب السلطان غضباً عظيماً وأحضر أبا إسماعيل وواجهه قائلاً: "ما هذا؟ قال: هذا صنم يعمل من الصُفْر شبه اللعبة. فقال: لست عن هذا أسألك. فقال: عن ماذا يسأل السلطان؟ قال: إن هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا الصنم, وأنك تقول أن الله على صورته، فقال الأنصاري: سبحانك هذا بهتان عظيم، بصوت جَهْوري وصولة، فوقع في قلب السلطان أنهم كذبوا عليه، فأمر به فأخرج إلى داره مكرماً، وقال لهم: اصدقوني القصة أو أفعل بكم وأفعل، وذكر تهديداً عظيماً، فقالوا: نحن في يد هذا الرجل في بليّة من استيلائه علينا بالعامة وأردنا أن نقطع شرّه عنا، فصرفهم السلطان إلى منازلهم بعد إهانتهم وأخذ غرامة منهم مبلغاً عظيماً من المال يؤديه إلى خزانة السلطان عقاباً لهم على جنايتهم ([14]).
وفي ذلك الخلاف وتلك الفرقة يقول الإمام الذهبي رحمه الله:
"ينبغي للمسلم أن يستعيذ من الفتن، ولا يَشْغب بذكر غريب المذاهب لا في الأصول ولا في الفروع، فما رأيت الحركة في ذلك تحصل خيراً، بل تثير شراً وعداوة ومقتاً للصلحاء والعباد من الفريقين، فتمسَّك بالسنة، والزم الصمت، ولا تخض فيما لا يعنيك، وما أشكل عليك فردَّه إلى الله ورسوله، وقف وقل: الله ورسوله أعلم" ([15]).
وهذا نص ثمين يلخص فيه الذهبي الآثار السيئة للخلاف والافتراق، ويذكر العلاج الناجح.
(2) الخلاف بين أهل الحديث:
ومن أمثلة ذلك أيضاً ما جرى بين الإمام البخاري رحمه الله تعالى وبعض علماء عصره وعلى رأسهم الإمام محمد بن يحيى الذُهْليّ الذي حسد الإمام البخاري على اجتماع الناس عليه، واتهمه بالقول بمسألة: لفظي بالقرآن مخلوق ــ وهي مسألة دقيقة، أُخذ بها البخاريّ بغير وجه حق ــ وهذا أحد تلاميذ البخاري يقول له: يا أبا عبد الله أيش الحيلة لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى؟ كل من يختلف إليك يُطرد، فقال البخاري رحمه الله تعالى: كم يعتري محمد بن يحيى الحسد في العلم، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء. فقال له التلميذ: هذه المسألة التي تحكى عنك؟ قال: يا بني هذه مسألة مشؤومة، رأيت أحمد بن حنبل، وما ناله في هذه المسالة، وجعلت على نفسي ألاّ أتكلم فيها.
ثم انتهى بالبخاري الأمر إلى أن أخرج من نيسابور ولم يشيعه إلا واحد فقط ([16]). ومات غريباً وحيداً رحمه الله تعالى، ألا قبَّح الله الفرقة والاختلاف.
¥