وما أحسن الذهبي عندما قال: "السكوت عن توسع العبارات أسلم للإنسان" ([17]).
(3) الخلاف في العصر الحديث:
وهو بلاء وأي بلاء؛ إذ في الوقت الذي يجتمع فيه أعداء الإسلام على حربه وتحطيمه نجد بين صفوفنا من يساهم في تلك الحروب ويؤجج نارها ويعظم شررها، ولعلي أقتصر في ذكر الطعن العقديّ في العصر الحديث على مثال واحد، وهو الأستاذ حسن البنا ــ رحمه الله تعالى ــ حيث إن بعض من زعم أنه يريد الحق ويرد الباطل قام بالتشنيع على هذا الأستاذ الذي ما سمح الزمان بمثله في مجموع خصاله وآثاره في العصر الحديث، فصار ينال منه ويتهم عقيدته اتهاماً عجيباً باطلاً، والناظر إلى تلك الأقوال يعلم بطلانها لكني أردت بالوقوف عليها بيان حجم المأساة التي أوصلنا أنفسنا بأيدينا إليها:
هذا الرجل قد وُجِّهت إليه سهام مغرضة واتهم في عقيدته بغير حق، كيف لا وهو القائل:"العقيدة أساس العمل" ([18]).
وهو القائل أيضاً: "ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني ([19]) إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالاتباع حسماً لمادة التأويل والتعطيل، فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان، وأثلج صدره برد اليقين فلا تعدل به بديلاً .. " ([20]). فماذا بعد هذا يا عباد الله!
وقد قال أيضاً: " وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يليق بذلك من المتشابه نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل " ([21]).
وقال أيضاً وكل بدعة في دين الله لا أًصل لها ــ استحسنها الناس بأهوائهم سواء بالزيادة فيه أو النقص منه ــ ضلالة تجب محاربتها .. " ([22]).
وقال أيضاً: "لكن الاستعانة بالمقبورين أياً كانوا، ونداءهم لذلك وطلب الحاجات منهم عن قرب أو بعد، والنذر لهم، وتشييد القبور، وإضاءتها، والتمسح بها، والحلف بغير الله، وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها، ولا نتأول لهذه الأعمال سداً للذريعة" ([23]).
وهذا اتهام آخر عجيب لا أدري وجهه، يقول فيه صاحبه ناعياً على البنا دعوته للجهاد: "قلنا: أي جهاد الذي دعا إليه البنا إذا كان قد أقرَّ الشرك الأكبر المخرج من الملة" ([24]).
كيف لعاقل أن يصدق أن البنا أقرَّ الشرك الأكبر؟ إن هذا لشيء عجيب!
ثم يتهم البنا بأنه صوفيّ وأنه بهذا قد ثُلم توحيده، وأتى ببعض ما ظنه شواهد على هذا!
هذا ولقد انبرى شيخ فاضل ([25]) للدفاع عن البنا فقال لهذا المتهم: "فأنا أنصحك أيها الشيخ أن تصون لسانك وقلمك عن الوقيعة في هذا الداعية الذي نفع الله به".
فما كان منه إلا أن شن عليه غارة عظيمة، وعدّه صاداً عن سبيل الله بهذه النصيحة، وعدّه خاذلاً للحق، متظاهراً مع أهل الباطل، ثم اتهمه بأنه بدفاعه عن البنا قد خدش توحيده! وقدح فيه، وأمره بالتوبة، ثم أفحش القول في البنا باتهامه أنه فعل الشرك الأكبر وأقر فاعليه عليه ([26]).
وكل تلك الغارة الهائلة بسبب أمور في التصوف ابتدأ بها البنا حياته، مثل الكثرة الكاثرة من صالحي العالم الإسلامي الذين يحيط بهم التصوف من كل جوانبهم ([27])، لكن هذا المتهم لم ينظر في أقوال البنا في الصوفية حيث قال بعد كلام عن الصوفية الأولى مادحاً لها ــ كما مدحها شيخا الإسلام من قبل: ابن تيمية وابن القيم ــ: "لكن فكرة الدعوة الصوفية لم تقف عند حدود علم السلوك والتربية، ولو وقفت عند هذا الحد لكان خيراً لها وللناس، ولكنها جاوزت ذلك بعد العصور الأولى إلى تحليل الأذواق والمواجد، ومزج ذلك بعلوم الفلسفة والمنطق ومواريث الأمم الماضية وأفكارها، فخلطت بذلك الدين بما ليس منه، وفتحت الثغرات الواسعة لكل زنديق أو ملحد أو فاسد الرأي والعقيدة ليدخل من هذا الباب باسم التصوف والدعوة إلى الزهد والتقشف .. وأصبح كل ما يكتب أو يقال في هذه الناحية يجب أن يكون محل نظر دقيق من الناظرين في دين الله والحريصين على صفائه ونقائه .. ".
فهل بعد هذا الإيضاح والبيان مزيد؟
وفي النهاية أقرر أن البنا ليس بمعصوم، وأنه قد أخطأ في أقوال وأفعال لكن ذلك الخطأ لا يخرجه عن كونه قدوة يُقتدى بها، وعلماً من أعلام الإسلام في العصر الحديث، والله تعالى أعلم ([28]).
¥