تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فقال: وما عندك؟ قلت: العين الكثير الطيب، والبَزّ الرفيع الغريب، فقال، كأنك تشهيني ما ليس عندي، يا مَجّة، ينادي بعض أولئك الوصائف، يريد "يا بهجة" فغيَّره بعجمته، قومي فاعرضي عليه ما في ذلك الصندوق، فقامت إليه وأقبلت بِبَدَر ([46]) الدنانير وأكياس الدراهم وأسفاط الحلي، فكُشف وجعل بين يدي العلج ([47]) حتى كادت تواري شخصه، ثم قال لها: أدني إلينا من تلك التخوت، فأدنت منه عدة من قطع الوشي والخز والديباج الفاخر مما حار له ناظري وبهت، واسترذلت ما عندي.

ثم قال لي: لقد كثر هذا عندي حتى ما ألذ به، ثم حلف بإلهه أنه لو لم يكن عنده شيء من هذا ثم بذل له بأجمعه في ثمن تلك ما سخت بها يداه، فهي ابنة صاحب المنزل، وله حسب في قومه، اصطفيتها لمزيد جمالها لولادتي حسبما كان قومها يصنعون بنسائنا نحن أيام دولتهم، وقد رُدّ لنا الكرة عليهم فصرنا فيما تراه، وأزيدك بأن تلك الخودة الناعمة ([48]) ــ وأشار إلى جارية أخرى قائمة إلى ناحية أخرى ــ مغنية والدها التي كانت تشدو له على نشواته إلى أن أيقظناه من نوماته، يافلانة، يناديها بلكنته، خذي عودك فغني زائرنا بشجوك.

قال: فأخذت العود، وقعدت تسويه وإني لأتأمل دمعها يقطر على خدها، فتسارق العلج مسحه واندفعت تغني بشعر ما فهمته أنا فضلاً عن العلج، فصار من الغريب أن أظهر الطرب منه، فلما يئست مما عنده قمت منطلقاً عنه، وارتدت لتجارتي سواه، واطلعت لكثرة ما لدى القوم من السبي والمغنم على ما طال عجبي به" ([49]).

وكفى بهذه القصة دليلاً على ما أصاب المسلمين من الذل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

يا غافلاً وله في الدهر موعظة

إن كنت في سِنة فالدهر يقظان

وماشياً مرحاً يلهيه موطنه

أبعد حمص ([50]) تغر المرء أوطان

تلك المصيبة أنست ما تقدمها

ومالها مع طول الدهر نسيان

ياراكبين عتاق الخيل ضامرة

كأنها في مجال السبق عقْبان ([51])

وحاملين سيوف الهند مرهفة

كأنها في ظلام النقع نيران

وراتعين وراء البحر في دَعَة

لهم بأوطانهم عز وسلطان

أعندكم نبأ من أهل أندلس

فقد سرى بحديث القوم ركبان

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم

قتلى وأسرى فما يهتز إنسان

ماذا التقاطع في الإسلام بينكم

وأنتمُ يا عباد الله إخوان

ألا نفوسٌ أبيّات لها همم

أما على الخير أنصار وأعوان

يا من لذلة قوم بعد عزهمُ

أحال حالهمُ كفر وطغيان

بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم

واليوم هم في بلاد الكفر عبدان

فلو تراهم حيارى لا دليل لهم

عليهم من ثياب الذل ألوان

ولو رأيت بكاهم عند بيعهم

لهالك الأمر واستهوتك أحزان

يا رُبَّ أمٍ وطفل حِيل بينهما

كما تفرق أرواح وأبدان

وطَفْلة مثل حسن الشمس إذ طلعت

كأنما هي ياقوت ومرجان ([52])

يقودها العلج للمكروه مكرهة

والعين باكية والقلب حيران

لمثل هذا يذوب القلب من كمدإن كان في القلب إسلام وإيمان ([53])

(3) وبعد سقوط غرناطة يحدثنا التاريخ عن هذا المشهد:

"صعد الكردنال إلى إحدى الأبراج بالقصر (قصر الحمراء) ونصب فوقه صليباً كبيراً من فضة ولواء الملكية المسيحية .. وما إن أبصرت الملكة الصليب منصوباً فوق قصر الحمراء حتى انحنت نحو الأرض واقفة على ركبتيها وهي تصلي وتوجه الشكر إلى ربها، أثار المشهد الحماس في نفوس أعضاء حاشيتها فعكفوا يرتلون الأناشيد الدينية. عند ذلك بدأ فيرديناند وبعض علية القوم وأعيانهم، يزحفون نحو غرناطة، ولما دخلوا تقدم نحوه أبو عبد الله (ملك غرناطة) ممتطياً جواده ولما دنا من فرناندو تهيأ للنزول عن صهوته ليقدم التحية إلى الملك النصراني لكن هذا الأخير أومأ إليه ألا يفعل، شفقة عليه، فقبّل أبو عبد الله ــ مع ذلك ــ ذراع فيرديناند اليمني وقدم إليه مفاتيح القصر" ([54]).

وهذا الذل الذي قبل به أبو عبد الله الصغير كان رجاء أن يوفي النصارى بوعودهم للمسلمين بالحفاظ على شعائر الإسلام وحرية التدين، فماذا حدث بعد هذه الذلة وهذا التنازل للنصارى؟

لا تسأل بعد ذلك عما حدث من الملكين فرديناند وإيزابيلا من نكث الوعود وإحراق كتب المسلمين ([55]) لإزهاق الحضارة الإسلامية، ومن فرض التعميد على الأطفال، ومن منع أداء شعائر الإسلام، ومن منع التسمي بأسماء عربية، ومن منع الختان، ومن منع التحدث بالعربية، إلخ ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير