و هذا واضح من قول ابن عباس رضي الله عنهما لكريب لما سأله (أو لا تكتفي برؤية معاوية و صيامه؟): فأجابه (لا). و هذا موضع الاستشهاد و الاحتجاج.
قال الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه " المفهم ": " ألا ترى أن معاوية أمير المؤمنين قد صام بالرؤية و صام الناس بها بالشام، ثم لم يلتفت ابن عباس [رضي الله عنهما] إلى ذلك، بل بقى على حكم رؤيته هو ".و كذا أهل المدينة المنورة.
* و الشاهد منه ثلاثة أمور:
الأول: أنه كان لأهل كل بلد (ولاية أو قطر) رؤيتهم لهلال رمضان. كالشام و الحجاز و نحوهما.
و كان ذلك في عصر الصحابة (ابن عباس و معاوية رضي الله عنهم)، مع وجودهم جميعا في دولة الخلافة الأموية، بإمرة معاوية ابن أبي سفيان. فتمت مراعاة تباعد البلاد.
الثاني: أن رؤية بلد للهلال غير معتبرة شرعا لغيره من البلاد الأخرى في مثل ذلك التباعد و نحوه. فلا يكتفى بها لغيره من البلاد و لا تلزمه من باب أولى؛ إذ لو كانت معتبرة للزم منها قضاء اليوم الفائت على من أفطروه و لم يصوموه، و هو ما لم يثبت، و لو وقع لنقل؛ و إذ لم ينقل قضاؤه – في مسألة كهذه متعلقة بعموم المسلمين و عبادتهم –: علم عدم اعتبارها من جهة الشرع.
و في مثل ذلك قال ابن تيمية – في " مجموع الفتاوى " – نافيا القول بوجوب قضاء اليوم الأول الفائت: (و الحجة فيه أنّا نعلم بيقين انه ما زال فى عهد الصحابة والتابعين يرى الهلال في بعض امصار المسلمين بعد بعض؛ فإن هذا من الامور المعتادة التى لا تبديل لها ولابد ان يبلغهم الخبر في اثناء الشهر، فلو كانوا يجب عليهم القضاء لكانت هممهم تتوفر على البحث عن رؤيته فى سائر بلدان الاسلام كتوفرها على البحث عن رؤيته فى بلده ولكان القضاء يكثر فى اكثر الرمضانات ومثل هذا لو كان لنقل؛ ولمّا لم ينقل دلّ على انه لا أصل له، وحديث ابن عباس يدل على هذا).
و كذا قال: وما من من شىء فى الشريعة يمكن وجوبه الا والاحتياط مشروع فى أدائه فلما لم يشرع الاحتياط فى ادائه قطعنا بانه لا وجوب مع بعد الرائى.
و هو - و إن كان يرى أن العبرة ببلوغ خبر الرؤية – و إن قاله احتجاجا على أصحابه الحنابلة في قولهم بوجوب قضاء ذلك اليوم على كل من بلغهم خبر الرؤية؛ إلا أنه يصلح و يصدق على مسألتنا أيضا.
و لا يقال: كان ذلك لتعذر بلوغ تلك الرؤية و العلم بخبرها وقتئذ للبلد الآخر؛ فقد قيل بوجوب قضاء نظيره؛ إذ " روى ?بن وهب و?بن القاسم عنه في المجموعة – فيما ذكره القرطبي - أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الأداء ". و هذا لم ينقل وقوعه في زمن الصحابة ذاك؛ فدلّ على أن المانع من اعتبار ابن عباس و أهل المدينة لرؤية معاوية و أهل الشام لم يكن لما اعتلوا به من تعذر العلم بخبر الرؤية – و قد بلغهم قبل انسلاخ الشهر – و إنما كان لأن لأهل كل بلد رؤيتهم عند تباعد البلاد؛ و موافقة هذا لترجمة الباب في " صحيح مسلم " ظاهرة.
الأمر الثالث: أنه لا اعتبار في الشرع – في قضية توحيد رؤية الهلال - لدعوى " الاشتراك في جزء من الليل " بين الأقطار؛ إذ لا شك في اشتراك بلاد الشام و الحجاز في جزء من الليل: معظمه و أكثره، و لم يعتبر حيبذاك؛ فدلّ على عدم اعتباره من جهة الشرع؛ فلا يلتفت للقول به و لا يعّول عليه.
و يؤيد هذا ما ترجم لذلك الحديث إمام الأئمة ابن خزيمة في " صحيحه " ب
(باب الدليل على أن الواجب على أهل كل بلدة صيام رمضان لرؤيتهم لا رؤية غيرهم)
(حدثنا علي بن حجر السعدي نا إسماعيل يعني بن جعفر عن محمد يعني بن أبي حرملة عن كريب: أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته ليلة الجمعة؟ قلت: نعم أنا رأيته ليلة الجمعة ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. قال: لكننا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصومه حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟
¥