إنّ من دُعي للكلام على رجل ممن يوزن بألف متعددِ النواحي كثيرِ التخصصات. حياته كلها مملوءة الفراغ سنين وشهورا وأياما، تتجاذبه اهتماماته المتعددة من حقوق الله تعلى وحقوق عباده مجتهدا في أن لا يقصر في شيء من ذلك جُهده ُولد مفطورا على هذا مهيئا له سليقة مثل الشيخ سيدي بابه. إنه ليحتار من أين يبدأ، وأي فنٍ منه يقرأ، وأي باب منه يقرع، أمن علمه؟ فهو العالم المجتهد والناظر الناقل المتبصر. أمن تجديده وإصلاحه؟ وهو المجدد المصلح المحيي للسنة بعد غربتها والداعي لها وقت خفوت صوت دعائها. أم قيادته الحكيمة وتسييره للمصالح العامة مذ عقدت يداه إزاره بعد وفاة أبيه وجده؟ أمن أدبه وظرفه في شعره ونثره؟ إلى كذا وكذا من الخصال الحميدة التي كلما أخذت في الحديث عن واحدة منها استهوتك الأخرى وجذبتك إليها جذبا حتى يتعسر عليك التزام وَحدة الموضوع دون أن تأتي منه بما يكتفي به السامع والقارئ لاتساعه وتشعبه.
. تكاثرت الظباء على خداش* فما يدري خداش ما يصيد
ولا بأس بذلك فكلها فوائد يأخذ منها الكاتب بما اتفق له بقدر وسعه العلمي والفكري وإذا كان كذلك فأقول:
يعتبر الشيخ سيدي بابه بن الشيخ سيدي محمد أبرزَ شخصيةٍٍ ظهرت في أواخر القرن الثالث عشر الهجري وأوائل الرابع، تملأ الدلو إلى عقد الكَرَب صيتا وذِكرا حسنا في مجالات شتى. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل: شُهْرَةُ الشيخ سيدي الجد علما وعملا، وصلاحا وزعامة دينية حكيمة، شاملة لجميع نواحي البلاد. بحيث يعتبر أكبر مُصلح بما لكلمة "الإصلاح" من معنى: إصلاحِ ذات البين بين الأمراء فيما بينهم إن تشاجروا، وقامت الحرب بينهم على ساق، والإصلاحِ بين القبائل المتناحرة، والإصلاحِ بين الأفراد المتنافرة، وإصلاحِ النفوس ورياضتها لتنقاد لأمر ربها امتثالا واجتنابا، إلى نشر العلم والفتوى في النوازل النازلة، والتآليف البديعة والنصائح القيمة، إلى دماثة خُلق وتحمل مشقة، عُرفَ بهما في رحلته الطويلة في طلب العلم، إلى نُصرة المظلوم وإعانة المنكوب، والصبر على جفاء الجافي ودفعه بالتي هي أحسن. بحيث صار حرما آمنا يلجأ إليه الخائف ويفر إليه الجاني، متعززا بتقوى الله مكتفيا به عما سواه. ويقال من خاف الله خافه كلُّ شيء. حتى صارت سِِمَتُهُ على المواشي أمانا لها من اللصوص الناهبين، فصار بعض الناس يضعها على مواشيه خوفا عليها. وفي هذا يقول العالم الشاعر أبَّدَّ بن محمود العلوي يخاطب بابه بن الشيخ سيدي محمد: أنسى الورى بُلدانَهم وغدت لهم من لم يَخُطّ البا بلوح خَطّهِ
بُلدانُه سَلْمَى البلاد ومَنْعِجَا يمنى التَّلِيلِ تحصنا مما فَجَا
ولقد أجاد سيدي عبد الله ولد أحمد دام الحسني في قصيدته التي يمدح بها الشيخ سيديا الكبير حيث يقول: لا يُظهر الضجْر من جار أساء ولا ولا يضيقُ ذراعا بالذي صَنَعَتْ وكم ثأًى بينَ ما حَيَّيْن أصلحه
من المُرافِقِ يُوهِي صَبْرَ من صَحِبَهْ أيدي الحوادث تَبتزُّ الفتى سَلَبَهْ خَرْزَ الصَّنَاعِ لمُسْنِي أُجرةٍ قِرَبَه
إلى قوله وطلعةُ الوجه للعافي تهلُّلُها
تَهَلُّلُ الأم تاتي بنتها الخَطَبَهْ
إلى غير ذلك. وأبوه الشيخ سيد محمد العالم العامل الناسك، المُخبت والشاعر المُفْلق والخليفة الكفؤ. فنشأ بابه في هذا الجو العلمي الديني والشرف الرفيع مهيأ لخلافة الأبوين، فكان كما قال زهير بن أبي سُلْمَى المُزَنِي في هرم ابن سنان المري: يطلب شأو امْرَأيْنِ قَدَّما حَسَناً هو الجوادُ فإن يلحقْ بشأوهما أو يسبقاه على ما كان من مَهَلٍ
نالا الملوك وبَذَّا هذه السُّوَقا على تكاليفه فمِثلُه لحِقا فمِثْلُ ما قدَّما من صالح سبقا
وقوله في أبيه سنان بن أبي حارثة: فما كان من خير أتوْه فإنما وهلْ يُنْبِتُ الخَطِّيَ إلا وشيجُهُ
توارثه آباء آبائِهِمْ قبلُ وتُغْرَسُ إلاَّ في منابتها النخل
لكن بابه لم يكتف بهذا الشرف التالد الموروث، دون الشرف الطارف المكسوب، منشدا حاله قول القائل:
إنا وإن أحسابُنا كرُمت نبني كما كانت أوائلنا
لسنا على الأحساب نتكل تبني ونفعل مثلَ ما فعلوا
بل بنى وفعل مثل ما بنت وفعلت آباؤه، كما قيل في رثائه: ولم يرضَ إلا أن يَسودَ بنفسِه قدَ اتْعَبَ نفسا بالغُدُوِّ لنيله ففاتهمُ إذ يركَنون لراحة
¥