تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فليس بمجدِ الغير سادَ عِصام وأسهرَ عينا والرجالُ نيامُ وقاد جموعَ الشِّيبِ وهو غلام

زيادة على علمه الواسع الغزير، وزعامته للقبائل المحيطة به، واهتمامه بهذا القطر أجمع، وبُعْدِ غَوْرِ عقله وجودةِ رأيه وتبصره في الأمور، وحزمه وشدة شكيمته في الحق وسياسته المعتدلة، لا تَهَوُّرَ ولا تأخُّرَ، إلى أدبٍ لطيفٍ وورعٍ حاجزٍ ونسكٍ عربيٍ وتحكيمٍ للسنة وإتباعٍ لها، وعرضِ المعلومات المأخوذات عن الشيوخ الأجلاء على أدلة الكتاب والسنة والقواعد الشرعية قبولا وردا، وشجاعة على الخروج عن المألوف أو الرأي الموروث، إن ظهر له فيه تَحَرُّفٌ أو تَحيزٌ، مع أدب مع الجميع وإنصاف. كل هذه عوامل تجسدت في بابه وانسجمت في سلوكه وتصرفاته بلا تناقض ولا تنافر، فكأنها خصلة واحدة مركبة من خصال، يخدم بعضها بعضا. فكان دعوةَ أبيه مخاطبا أباهُ من قصيدته المشهورة: وأن يبارك لكم في العقب

منكم فيَحْظى بثباتِ العقب

وحيث إنّ كل جانب من هذه الجوانب المتعددة لو أرسلَ الكاتب فيه عنان قلمه كان مُجلدا، أردت أن أركز هنا أكثر على جانبه العلمي، لأكتب عنه كلماتٍ يسيرةً من باب "لازمِ الفائدة"، لأن الجوانب الأخرى كلُّها صادرةٌ عن علمه ونابعةٌ منه فأقول:

2. حياته العلمية: حفظ القرآن وهو دون عشر سنين، ثم أكب على طلب العلم وأخذه من علماء تلامذة أبويه مع ذكاء خارق وجدٍ، لا يعرف الراحة: وإذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرادها الأجسام

ثم نظر لنفسه واستجلب الكتب النادرة من قاصي البلدان ودانيها شراءا واستنساخا ونحوهما، زيادة على خزانة جده الضخمة التي أتى بأكثرها من المغرب، وفيها يقول بعض معاصريه: أتيتَ بكُتْبٍ يُعْجِزُ العيسَ حَمْلُها

وعندكَ عِلْم لا تحيط به الكتُب

وأقبل بابه على المطالعة من غير فتور. أخبرني بعض العلماء راويا عنه، أنه قال له من جملة ما حدثه به: أنه أُعْطِيَ سرعة فائقة في مطالعة الكتب، وأن سرعته في تقليب الأوراق تفوق سرعته في أي عمل ... إلى أخر ما حدثني. ولما كثرت كتبه بنى لها دارا لصيانتها، والناس إذ ذاك في هذه البلاد بدوٌ لا يضعون لبنة على لبنة. وقيل في رثائه مشيرا لهذه الدار: وحَقَّ لكُتْبِ الطبع فيضُ دموعِها فقد شاد حول البيت صرحا مُمردا

وتبكي طروسٌ سُطِّرَت وقِلامُ لها إذ غدت عنها تضيق خيام

ويقول بابه نفسه في ذلك: بوركتِ يا دارَ كُتْبِ العلم من دار ودام مجدُك محفوظا سرادقُه ولا تَزَل نِعَمُ الرحمن مقبلةً ونلتِ فتحا مبينا غير منقطعٍ وكان أهلُك دوما كلَّ متبعٍ لا يصرفُ العمرَ في لهو ولا لعب طورا إلى أحرفِ القرآن وِجهته وتارة يَنتحي ما جاء من سُنَنٍ إلى أصول إلى فقه إلى سَنَنٍ إلى فنون من الآلات مُظهرةٍ ألفى بمغناه ما يَبْغيه من أربٍ فالحمد لله في بدء ومختتم

وجاد أرضَك غادي المزن أو ساري طولَ الزمان من المولى بأسوار إليك غيرَ مَشوبات بأكدار في العلم زِينَ من التقوى بأثمار نهجَ الرسول بإيراد وإصدار بل في علوم وآداب وأذكار وما تضمن من معنى وأسرار عن الثقات وأخبار وآثار من التصوف لم يوصف بإنكار من المقاصد مستورا بأستار فَقَرّ عينا بفضلِ الخالق الباري والحمد لله في جهر وإسرار

وقد كان يفرح بطبع الكتب النادرة فرح الصديق بلقاء صديقه بعد طول الفراق، ويقول في ذلك الأشعار الرقيقة المشعرة بالعاطفة الصادقة والاغتباط التام، غير ناسٍ مع ذلك أن شهوةَ العلم العارمةَ لا ينبغي أن تُنسيَّ صاحبها أن العلم وسيلةٌ وثمرتُه التقوى، فإذا لم تصحبه الخشية فهو على صاحبه لا له. من ذلك قوله عندما طَبَعَ مَلِكُ المغرب الأقصى مولاي عبدُ الحفيظ بن مولاي الحسن العلوي، على نفقته "منتقى" أبي الوليد الباجي على الموطأ، وأتته منه نسخة، ولم يبلغني أنه دخل البلاد قبل ذلك: حبيب وفي منه الزمان بمُلتقى وساقٍ لبيبٌ لا يُمَلُّ حديثه ومِرقاةُ علمٍ أمكنتنا ولم يكن بنيل كتاب "المنتقى" غيرَ أنه

ونِسرينُ روضٍ في البلاد تفتقا "سقانا على لُوح شرابا مُعتَّقا" يسيرًا إليها في الأماكن مُرتقى نتيجةُ نَيْلِ المُنتقى لمن اتقى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير