إن التفكير في استنباط هذه العلاقة التي هي جوهر الدلالة يجب أن يحدث جملياً دون تردد، ومتى تم لنا هذا كانت الدلالة المتصورة ذهنياً حصيلة عملية فورية لاقتران الدال بالمدلول، أو اللفظ بالمعنى، أو الشكل بالمادة، أو الاطار بالمحتوى ... بمختلف التعبيرات المختلفة المنطوق، والمتحدة المفهوم ... ويمكن تجسيد هذا هذا المنظار في ضوء ما نجده في التصور الأولي للحرف (أ) في اللغة العربية عند الذهن وذلك حين يرسم هذا الأمر دالاً بشكله على هيئته الذهنية، وهو نفسه في اللغة الانكليزية يرتسم شكلياً على هذا النحو ( A ) حينما نتصوره بهذه اللغة دون سواها.
والتبادر الذهني لهذه الرموز عند نطقها يحدث دفعة واحدة عند تصور أشكالها في الخارج بحيث لا يلتبس التصور للحرف نفسه، ولا يختلط بغيره من الحروف في كل من اللغتين.
البحث الدلالي الحق هو ذلك البحث الذي يخلص إلى نتائج النظرية والتطبيق في دلالة الألفاظ بحيث لا ينفصل التصور الذهني المجرد عن الشكل المادي الخارجي، وهذه المهمة هي المنعطف الهادف لمسيرة البحث الدلالي المتطورة عند العرب والأوروبيين.
(10)
ومصطلح البحث الدلالي من المصطلحات النقدية المعاصرة في منهج التحديث الأوروبي ولهذا فقد كان طبيعياً وموضوعياً أن نستعرض بعض ملامح هذا البحث بلغته المحدثة، والتي يمكن لمحها عند المقارنة الجادة بين الموروث الدلالي عند العرب والمسلمين ـ قبل أن يتحقق مفهومه في الدرس النقدي الجديد ـ وبين معطيات الفكر الأوروبي الحديث والعربي المعاصر.
وانطلاقاً من هذه الحقيقة العلمية فقد فضلت أن أشير إلى أن دراسات المحدثين في هذا الميدان تستأهل الاهتمام المبكر بغية تخطيط البحث نظرياً وموقفاً، ولدى عرضه سيتجلى التجديد في مجال الأسلوب، والبقاء على الموقف الأم في التراث الاسلامي عند العرب، وستجري تطبيقات البحث بالوقوف عملياً عند طائفة مختارة من الزخم القرأني لغوياً ونقدياً في لمحات خاطفة على سبيل الأنموذج والمثال، ونكون بذلك قد أجرينا المقارنة العلمية الكاشفة من جهة، ودللنا على تطور البحث من جهة أخرى ونظّرنا له بالقرآن الكريم تطبيقاً.
وفي ضوء هذا التخطيط الأولي كانت معالم البحث متسعةً لثلاثة فصول على النحو الاتي: ـ
الفصل الأول: نظرية البحث الدلالي عند المحدثين.
الفصل الثاني: أصالة البحث الدلالي عند العرب المسلمين.
الفصل الثالث: تطبيقات البحث الدلالي في القرآن الكريم.
ولقد رأيت من المفيد حقاً ـ بعد هذه الفصول ـ أن أخصص فصلاً إضافياً قائماً بذاته، لمعجم تقريبي إحصائي بأسماء أبرز الدلاليين العالميين من النقاد والبلاغيين، قدامى ومحدثين، تسهيلاً لمهمة الباحث الأكاديمي حينما يتناول نظرية الدلالة لدى « السمانتيكيين » في الموضوع على وجه التفصيل لأوجه الإشارة والتمثيل كما هو في طبيعة هذا البحث في النظرية والتطبيق.
وتبقى محاور هذا البحث المركزية متمثلة بالتحديث أولاً، وبالتراثية ثانياً، وبالتنظير القرآني أخيراً، وليس في البحث مسح إحصائي لهذه
(11)
المحاور بقدر ما فيه من لمح لتطور البحث الدلالي نظرياً، مع احتفاظ الفكر الإسلامي والعربي بحق الابتداع للموضوع، والابتكار في منهجية البحث، مما يلقي نوعاً من التوجه نحو الجهود المبتكرة للدلالة اللغوية في ضوء النقد البلاغي في أرقى مقاييسه الفنية رؤية ومعاصرة.
ولما كانت هذه المهمة في البحث مهمة نقدية وبلاغية ولغوية فقد أبعدنا السبق المنطقي، والعرض الأصولي للمسألة ولسنا بصدد الخلط بين مفهوم الدلالة عند المناطقة باعتبارها تضمينة أو التزامية أو مطابقية، وبين المفهوم البلاغي المتشابك للدلالة كما فعل الخطيب القزويني (ت: 739 هـ) تبعاً لأبي يعقوب السكاكي (ت: 626 هـ).
ولسنا نريد إضافة شيء على ما أفاده علماء الأصول في مباحث الألفاظ باعتبارها تشخص صغريات أصالة حجية الظهور في الأمر والنهي، والمفاهيم، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والتعارض على وجه.
¥