تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

«ومما يكثر وروده في العبارة القرآنية حكاية القول دون العناية بذكر القول، وهو أشبه ما يكون بلوحة أسقط منها مالا حاجة به من خطوط ابتغاء التنويه بجوهر الموضوع، صورة قصد فيها إلى إهمال ما لا يتعلق بالمعنى أو الفكرة التي أريد التعبير عنها، والالتفات إلى الأصل والأساس. ولو اتصل الكلام لما أثار قدراً من الانتباه والاهتمام مثل الذي يثيره الانقطاع، كالذي يسير في طريق ممهدة لاحبة، تقوده قدماه حتى لا يعود يتلفت حوله، ولايثنيه لما يحيط به حتى يفاجئه انحراف في الطريق، أو التواء، أو انقطاع، يسلم إلى منحدر أو مرتقى فيفتح عينيه، ويرهف حواسه بعد ذلك الانقطاع» (1).

وينظر إلى هذا الملحظ بالتأمل في قوله تعالى:

(فلمّآ أتاها نودي من شاطيء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشّجرة أن يا موسى إنّي أنا الله ربّ العالمين * وأن ألق عصاك فلمّا رءاها تهتزّ كأنّها جآنّ ولّى مدبراً ولم يعقّب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الأمنين *) (2).

2ـ وقد استفاد أستاذنا الجليل الدكتور جميل سعيد عضو المجمع العلمي العراقي أن في لغة الشعر الجاهلي ألفاظاً استعملت ولا يسدّ غيرها مسدّها. وكانت تلك الألفاظ قد استخدمت في لغة التخاطب والحديث «تلك اللغة ذات الألفاظ الواضحة المتداولة المفهومة، يقولها ـ امرؤ القيس ـ: وكأنه لا يرى استبدال هذه الألفاظ بغيرها يسد مسدها، يتذكر الحوار، ويعيد الحديث الذي سلّى به صاحبه، يعيده وكأنه يرى فيه تسلية وعزاء لنفسه، يقول (3):

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه * وأيقن أنا لاحقان بقيصرا

فقلت له: لا تبك عينك إنما * نحاول ملكاً، أو نموت فنعذرا


(1) أحمد عبد الستار الجواري، نحو القرآن: 38.
(2) سورة القصص: 30 ـ 31.
(3) امرؤ القيس، الديوان: 72.
(24)

فلغة الشعر عند امرؤ القيس وسواه تهبط إلى لغة الحديث التي يتبع بها أسلوب الحوار، وأسلوب السؤال والجواب، ولغة الحديث هذه، هي لغة النثر التي يقصد بها الأفهام. ومن هنا تكون واضحة ذات جمل قصيرة، وتكون بعيدة عن الصناعة اللفظية التي تعمد إلى التزويق في الألفاظ، وإلى الاستعارات والمجازات» (1).
فكأن الغرض الفني عند العربي بفطرته ـ كما يرى ذلك أستاذنا الدكتور جميل سعيد ـ أن يقصد بالألفاظ إيصال المعنى المراد إلى المتلقي بما يفهمه و يسبر غوره، وتلك روح الدلالة عند العرب.
ولعل في تعقب الصفحات الآتية ما يعطي صيغة مقنعة أو مرضية في هذا المنحنى المقارن الذي لا يخلو من طرافة استدلالية على صحة هذا المنظور المجرد عن الحساسية والإثارة بقدر ما هو أصيل في مصادره الريادية الأولى، عسى أن يكون ذلك مؤشراً ينبه على قيمة هذا التراث بين هذه السطور التي لا تعدو كونها نماذج في مسيرة الدلالة.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير