تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأمّا دخول "إنّ"، فيُشعر بالمحذوف فيها دلالة على المحذوف، لأنّها لا تدخل على الجملة إلاّ إذا كان فيها نسبة بين شيئيْن، وهذا يستدعي تقديراً للمحذوف؛ والحذف هنا يفيد مع الإيجاز قوّة العبارة ودقّتها.

ومن شواهد البلاغيِّين في حذف المسنَد مع "إنّ": قول الأعشى:

إنّ مَحَلاًّ وإن مُرتَحَلاً

وإنّ في السّفْر إذْ مَضَوْا مَهَلاَ

يقول: المَحلّ والمرتَحَل -بمعنى الحِّل والارتحال-، يعني: إنّ لنا حلولاً في الدنيا إلى حين، وإنّ لنا ارتحالاً إلى الآخرة. "وإنّ في السفْر" يعني: في جماعة المسافرين، ويقصد بهم جماعة الأموات. "إذ مضَوْا مهَلا"، يعني: إمهالاً وطول غَيبة، لأنّهم لا يعودون.

إنّ مَحَلاًّ وإن مُرتَحَلاً

وإنّ في السّفْر إذْ مَضَوْا مَهَلاَ

يريد الشاعر: أنّ لنا في الدنيا حلولاً إلى حين، ثم لنا بعد ذلك مرتحَل عنها إلى الآخرة طويلاً، كما هو شأن الرّاحلِين منهم الذين مضَوا فلم يعودوا. والشاهد هو في قوله:

"إنّ محلاً وإنّ مرتحلاً"

أي: أن لنا محلاًّ، وإنّ لنا مرتحَلاً.

ومِن حذْف المسند لاتّباع الاستعمال الوارد: قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ}: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ}، {أَنْتُمْ} فاعل لفعْل محذوف يفسِّره المذكور، لأنّ {لَوْ} لا تدخل إلاّ على الأفعال. وتقدير الكلام: لو تَملكون تملكون؛ فلمّا حُذف الفِعل المسنَد "تملكون" الأوّل انفصل الضمير، وهو: واو الجماعة، فأصبح {أَنْتُمْ}، ثم ذُكر الفعل من بَعده لكي يكون مفسِّراً له ودالاً عليه؛ وهذا ما يقتضه عِلم الإعراب.

أمّا ما يقتضيه عِلم البيان والبلاغة، فهو: أنّ {أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} فيه دلالة على الاختصاص، وأنّ الناس هم المختصّون بالشحّ المتبالَغ.

ونَحوُه مِن حذْف المسند لاتّباع الاستعمال الوارد: قول حاتم الطائي: "لو ذاتُ سوارٍ لطَمَتْني! ". وذات السوار عند العرب هي: الحرّة. يريد حاتم: أنه لو لطَمته حرّة لهان الأمر. وقصة هذا المثَل: أنّ حاتماً مرّ ببلاد عَنَزة، فنادى أسيرٌ لهم أن يساعده حاتم في إطلاق سَراحه، ولم يكن مع حاتم شيء يساومهم به. فقال لهم: أطلقوه، واجعلوا يدي في القَيد مكانه، ففعلوا. ثم جاءته أمَة ببعير ليَفصده، فنَحَره، فلطمَته على وجهه، فقال: "لو ذات سوار لطمتني! " يعني: الذي حزّ في نفسه أنّ التي لطمَتْه إنما هي أمَة، ولو كانت حرّة هي التي لطمَتْه لكان الأمر متقبّلاً. فقال: "لو ذات سوار لطمتني! ". فالمحذوف هنا هو: المسند، والتقدير: لو لطمتْني ذاتُ سوار. فحَذَف المسند لدلالة "لطمَتْني" عليه. حذَفه بعد "لو" المختصّة بالدخول على الأفعال.

ومن ذلك: قول المتلمِّس:

ولو غيرُ إخواني أرادوا نَقيصَتي

جعلتُ لهم فوق العَرانِين مِيسَما

وما كنتُ إلاّ مِثلَ قاطع كفِّهِ

بكفٍّ له أخرى فأصبح أجذَما

"العرانِين": جمع عِرْنين، وهو: الأنف كلّه، أو الجزء الصّلب من الأنف. و"المِيسم": العلامة.

"ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي"

أي: لانتقمتُ منهم، وجعلت لهم شيئاً يُعيّرون به، وهو: أن أجعل في أنفهم -وهو موطن الشّمم والإباء- علامة تدلّ على أنني ضربْتُهم أو آذيْتهم. يقول: لو أنّ الإساءة أتتْني من غير إخواني لعرفتُ كيف أثأر لنفسي وأنتقم، وأجعل من أساء إليَّ يُعيّر بعلامة تدلّ على ذِلّته، تكون فوق أنْفه. ولكن المشكلة: أنّ الإساءة أتَتْني من ذوي رحِمي، فإذا انتقمت منهم كنتُ كالذي يَبتر يده باليد الأخرى:

وما كنتُ إلاّ مثلَ قاطع كفِّه

بكفٍّ له أخْرى فأصبَح أجذَما

يعني: مقطوع اليد، وهذا شبيه بقول الشاعر الآخَر:

قَومي هُمُو قتلوا أُمَيمَ أخي

فإذا رمَيْتُ يصيبُني سَهمي

المُهمّ: أنّ الشاهد في أنّ "غير إخواني": فاعل لفعْل محذوف تقديره: ولو أراد غير إخواني، وحُذف لدلالة "أرادوا" المذكورة في الكلام عليه.

أقول: مِثل هذه الأساليب التي ذَكرها النّحاة واردة عن العرب، وقد حُذف فيها المسنَد مِثل حَذف المسند بعد القَسم الصريح، وبعد "لولا" مع الحال السّادّة مسدّ الخبر، ومع واو المصاحبة، أو واو المعِيّة الصريحة، و"إذا" الفجائية، و"لو" وغيرها ... أقول: لا أظنّك تغفل عن أنّ هذه الجُمل جُمل رشيقة يسوقها النحاة في باب الخبر، من مِثل قولهم: "لعَمرك لأفعلنّ"، و"ضربي زيداً قائماً"، و"كلّ رجل وضَيْعته". نعم، إنّها جُمل حلوة، تَلفت النفس بوجازتها، وإن كانت مقتطَعة أو خالية من السياق الذي يُضفي على العِبارات مزيداً من الحياة والقوة.

فواضح من قول عمر: "لولا عليٌّ لهلَك عُمر"، واضح أنّ هذه الجملة التي يَذكرها النحاة جملة عذبة، ولا يستطيع أن يقول عمر: "لولا عليّ موجود"، لأنّ ذلك يُعدّ امتداداً ثقيلاً للعِبارة، لا يُمكن أن يَنطق به عربيّ فصيح. فالإيجاز إذاً -وهو من أهمّ ألوان جَمال اللغة وبلاغتها- داخل في أصل هذه التراكيب، وكأنّها عُجنَت بهذا الإيجاز.

انظر مثلاً إلى قولهم: "ضَرْبي زيداً قائماً"، تجده يَنطوي على دقّة عجيبة في التأليف، لا يهتدي إليها إلاّ عارف بطبائع العلاقات في الجُمل؛ فهو مثال يتكوّن من كلمات ثلاث: "ضربي"، "زيداً"، "قائماً"، تنطوي وراءها كلمات أربع؛ إذِ الأصل: "ضربي زيداً حاصل إذا كان زيد قائماً". فالمحذوف أكثر من المذكور. وهذا المحذوف أشار إليه بتصرّف قريب ودقيق، هو: تنكير "قائماً"، لأنه بذلك يكون مُنع من أن يكون وصفاً لزيد؛ وبذلك يتعيّن أن يكون بقيّة جملة أخرى.

وقوله: "ضَرْبي زيداً"، جزء جملة يتعيّن أن يكون له ما يتمِّمه، فتحصّل أنّ صدر هذا المثال اقتضى محذوفاً، يكون هذا المحذوف تماماً له. وعَجُزه اقتضى محذوفاً يكون هذا المحذوف ابتداءً له، مع ضرورة أن يكون بين هذه المحذوفات ما يَربط الجملتيْن رباطاً صحّ معه هذا التلاؤم الذي تراه بين الجزءيْن المذكوريْن.

فإذاً، هذه العبارات التي بُنيَت في كلام العرب على الحذف بصفة دائمة، لم يُحذف فيها ما يُحذف إلاّ لأنّ العِبارة تكون بهذا رشيقة، موجَزة، واضحة الدلالة تماماً، مع وجود الحَذف فيها.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير