تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي قوله: (احفظ الله يحفظك): جناس اشتقاقي ومشاكلة لفظية تزيد المعنى بيانا فالجزاء من جنس العمل، على وزان قوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)، وشتان حفظ الرب، جل وعلا، لعبده في مقابل حفظ العبد لربه، جل وعلا، فالأول محض فضل، والثاني: آكد فرض.

احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ: إطناب بتكرار الأمر مع اختلاف الجواب إمعانا في الحض على الفعل بتكرار لفظ الأمر به، فضلا عن الترغيب بذكر جواب جديد يترتب عليه يحمل في طياته معنى تتشوف إليه النفوس طلبا، وأي معنى أعظم من معية الله، عز وجل، المعية الخاصة، معية النصرة والتأييد، التي لا تكون إلا للمؤمن الذي امتثل الأمر والنهي ديانة فصار أهلا لعطاء التأييد بالأسباب الشرعية الحافظة للدين، والأسباب الكونية الحافظة للدنيا، فمعه من الأسباب الغيبية ما ليس مع عدوه، وذلك بخلاف المعية العامة: المعية العلمية المحيطة بكل الخلق مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فتلك مما يستوي فيه الخلق كلهم، فالله، عز وجل، مقيت كونه بأسباب بقائه، فيقيت العاقل والبهيم، المتحرك والجامد ........ إلخ، عالم بأحواله وأسراره، لا يخفى عليه كلي أو جزئي، فهو الذي خلق بأمره الكوني وكلف بأمره الشرعي، وجعل من خلقه العالمَ، فهو بهذا الوصف أليق، بلا كيف نعلمه، أو حد ندركه، فالأمر جار على ما اطرد في حق الله، عز وجل، من جواز، بل وجوب قياس الأولى في حقه في كل وصف كمال مطلق جاء خبر الوحي بإثباته مما يشترك الخالق والمخلوق في معناه الكلي، فإذا ثبت العلم للمخلوق فهو في حق الحالق، عز وجل، آكد وأولى بالثبوت بداهة، إذ كيف يخلق عالما وهو غير عالم؟ وشتان علم المخلوق القاصر الذي لا يتعدى حدود مدركاته الحسية والعقلية، وعلم الخالق الكامل الذي لا منتهى لكلماته، ولا حد لمعلوماته، فلا تدركه الأبصار إحاطة، وهو أعظم وأشرف معلوم، وهو يدرك الأبصار إحاطة فـ: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، علما مفصلا، والتنبيه بالأعلى وهو علم البواطن دال على الأدنى من علم الظواهر من باب أولى.

فالله، عز وجل، مع كلٍ، معية علمية عامة، ولكنه ليس إلا مع المؤمن معية تأييد خاصة، إذ قد اجتمع في المؤمن: أمر القدر النافذ في كل خلق، وأمر الشرع الحاكم في كل فعل فاجتمع له نوعا المعية، بخلاف الكافر الذي تخلف في حقه التأييد فرعا عن مخالفة أمر التشريع، وإن ظهر حينا ففتنة يمحص الله، عز وجل، بها عباده المؤمنين، بإدالة عدوهم عليهم، على ما اطرد من سنة الرسل عليهم السلام، فينالون من عدوهم تارة وينال عدوهم منهم تارة حتى يظهر الله، عز وجل، أمرهم، مصداق قوله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، فكتبه قضاء كونيا نافذا، فتلك سنة كونية جارية لا تكون إلا لمن التزم السنة الشرعية الحاكمة، و: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، فهو خبر لا يقبل النسخ أو التبديل، علق فيه النصر على أوصاف الرسالة والإيمان، وقد انقطعت الأولى بقبضه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلم يبق لمن جاء بعده إلا وصف الإيمان ليحظى بمنة الرحمن، منة: (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)، فذيل النعمة الكونية بالأمن، الذي تفتقر إليه أغلب ديار المسلمين اليوم، بالتكليف الشرعي: (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)، فالشرع، رحمة كله، رحمة في الأولى: بصلاح أحوال العالم، ولا يكون ذلك إلا بالنبوات، فبها تصلح أمور الأعيان والجماعات والأمم، وصلاح أحوال الأديان، وهو المراد الأعظم، فصلاح الدين أصل، وصلاح الدنيا عنه فرع، وأغلب أهل زماننا قد غفلوا عن ذلك فصاروا يطلبون المستحيل، بإصلاح الدنيا بلا دين، بل بتحصيل أسبابها الزائلة فلم يزدهم ذلك إلا حيرة واضطرابا نلمس أثره في المجتمعات الأوروبية العلمانية التي نبذت الدين، وإن كان محرفا، فانقطعت صلتها بالنبوات، ولو كانت آثارا مدروسة في أناجيل محرفة،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير