وهذا ما نبه عليه المحققون من أمثال شيخ الإسلام، رحمه الله، إذ ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك ولو في أصل الوجود، وقدر فارق، فمن نفى القدر المشترك وقع في التعطيل، ومن نفى القدر الفارق في الحقائق الخارجية وقع في التمثيل والتجسيد.
فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ:
بيان لما تقدم من جفاف القلم، فكأن المخاطب قد تساءل: بم جف القلم؟، إذ هو من المجمل الذي سيق ابتداء لاسترعاء انتباه المخاطب فلما أصغى جاء البيان بـ:
لَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ: فورد التوكيد في مقام العجز عن النفع بـ: "كلهم"، "جميعا"، قطعا لأي احتمال مجاز إذ التوكيد رافع له، على وزان قوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)، فكلهم لم يشذ منهم أحد، أجمعون في وقت واحد، فكذلك الخلق لو اجتمعوا بأعيانهم في وقت واحد إرادة نفعك، وجاء النفع بصيغة المضارع المتمحض للمستقبل بـ: "أن" إرادة التجدد والاستغراق لأجزاء الزمن المستقبل، فعجزهم عن نفعك مستمر لا انقطاع له، وذلك أبلغ في بيان المعنى المراد، ووردت النكرة: "شيء" في سياق شرط فهذا عموم آخر يؤكد ما تقدم، فلن ينفعوك مع اجتماعهم وتوحد إراداتهم في زمن واحد بأي شيء!، وذلك مما يقطع رجاء المخلوق في غير الخالق، عز وجل، وذلك، أيضا، مما يخف على اللسان، ويثقل على القلوب والأبدان، والكتابة في هذا السياق: كونية، بقرينة السياق، على وزان الكتابة في قوله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا).
وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ: طباق بالإيجاب بين: "أن ينفعوك" و: "أن يضروك" استوفى شطري القسمة العقلية إرادة قطع الرجاء أو الخوف من غير الله، عز وجل، فلا خير عنده ليرتجى إلا ما شاء الله، عز وجل، جريانه على يديه، جريان المسبَب فرعا عن سببه الذي لا استقلال له بالتأثير كما تقدم، وفي المقابل: لا شر منه ليتقى إلا ما شاء الله، عز وجل، وقوعه على يديه على وزان ما تقدم في النفع. فالنفع والضر على جهة الاستقلال من أوصاف الربوبية، إذ هما فرع عن مشيئته، عز وجل، النافذة، فهما من أوصاف الأفعال التي يحدثها الله، عز وجل، متى شاء كيف شاء فأنواعها أزلية لم تطرأ على الله، عز وجل، الكامل أزلا وأبدا فلا يعتريه أي نقصان، وآحادها حادثة تبعا لمشيئة الرب، جل وعلا، وقوعها، وهذا أصل مطرد في صفات الأفعال كالكلام والغضب والضحك .............. إلخ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا:
توكيد بـ: "إن" التي سدت مع اسمها وخبرها مسد مفعول: "اعلم" الثاني فذلك أبلغ من قولك: اعلم خيرا كثيرا كائنا في الصبر.
وتقديم متعلق المفعول الثاني على التقدير السابق: انتقال إلى محط الفائدة وهو التكليف الشرعي بالصبر إذ هو المراد من العبد، وتقييده بـ: "على ما تكره": لا مفهوم له، فهو وصف كاشف إذ الصبر لا يكون إلا على المكاره وإنما ورد إمعانا في بيان صفة الصبر الذي يتعلق به حصول الخير الذي نكر تعظيما ووصف تكثيرا.
وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ: بيان لإجمال الخير الكثير بإحدى صوره وهي النصر، والنصر يعم بدلالة: "أل" الجنسية الاستغراقية كل صور النصر المعنوي والحسي، فهو مظنة النصر بالحجة والبرهان فذلك شقه المعنوي، والنصر بالسيف والسنان، فذلك شقه الحسي الذي يتبادر إلى الذهن ابتداء، مع كونه، عند التحقيق، فرعا عن الأول، إذ ثبات البدن في ساحات الوغى فرع عن ثبات القلب بتصور إلهي صحيح، ومعية النصر والصبر معية اقترانية مؤثرة، إذ الصبر لازمه النصر، فالصبر ملزوم والنصر لازم، والاقتران بين اللازم والملزوم أو العلة والمعلول: اقتران عقلي لا يتصور وقوع الانفكاك فيه. فالنصر مع الصبر يقينا.
وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ: طباق بين الكرب النازل والفرج الرافع له يزيد المبتلى رجاء في رحمة الله، عز وجل، فالشددة بتراء، لا اتصال لها، والمعية هنا أيضا: معية اقترانية، فينزل الكرب تمحيصا، وينزل الفرج تخفيفا.
وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا: تذييل معنوي لما تقدم من نزول الفرج عقيب الكرب، ونكر اليسر إرادة التعظيم، إذ النكرة مظنة العموم، في حين عرف: "العسر" إرادة العهد فهو مظنة الحصر، فالعسر النازل المعهود يعقبه يسر عام رافع له.
والله أعلى وأعلم.
ـ[أنوار]ــــــــ[09 - 07 - 2009, 02:08 م]ـ
جزاكم الله خيراً أستاذنا الكريم ..
شرح بلاغي قيّم .. أجدتم وأفدتم ..
¥